الحسن الثاني والسلطة: بناء الملكية القوية في مغرب ما بعد الاستقلال

منذ استقلال المغرب سنة 1956 وحتى وفاته سنة 1999، كان الملك الحسن الثاني أحد أبرز الشخصيات السياسية في تاريخ المغرب المعاصر. حكم دام قرابة أربعة عقود، طبع البلاد بتحولات عميقة، وصراعات سياسية دامية، وإصلاحات اقتصادية كبرى. شخصية معقدة، جمعت بين الحزم والمكر السياسي، بين التحديث والحكم المطلق، فكان رمزًا للسلطة المركّزة والدولة التي تدور حول شخص الحاكم.

👑 1. التمهيد للسلطة: الوريث السياسي والعسكري

  • وُلد الحسن الثاني سنة 1929، وتلقى تعليمه الأولي في القرويين، ثم التحق بالمدرسة المولوية، قبل أن يواصل دراسته العليا في فرنسا حيث تخصص في القانون.
  • رافق والده محمد الخامس في معارك الدبلوماسية إبان الاستعمار، وكان من أبرز مساعديه في مفاوضات إيكس ليبان.
  • عقب الاستقلال، أصبح قائدًا للأركان العامة، ثم مستشارًا سياسيًا بارزًا، ما جعله مستعدًا تمامًا لتولي الحكم سنة 1961 بعد وفاة والده.

منذ البداية، بدا واضحًا أن الحسن الثاني لم يرغب في ملكية رمزية، بل في نظام سلطوي قوي يستمد شرعيته من الدين، والتاريخ، والحنكة السياسية.

🏛️ 2. البرلمان في عهد الحسن الثاني: بين التجميل والتهميش

رغم وجود البرلمان كمؤسسة تشريعية منذ دستور 1963، إلا أن دوره ظل محدودًا طوال عقود حكم الحسن الثاني:

  • خلال حالة الاستثناء (1965-1970)، جُمّد البرلمان بالكامل، مما عزز الحكم الفردي.
  • حتى بعد عودته، ظل البرلمان تحت السيطرة، بأغلبية تُصنع في القصر.
  • أغلب البرلمانيين كانوا إما موالين للنظام أو غير قادرين على التأثير الفعلي.
  • مشاريع القوانين كانت تُعد داخل الدوائر الضيقة للقصر ثم تُمرر شكليًا.

وبذلك تحوّل البرلمان من مؤسسة للمحاسبة والتشريع إلى واجهة ديمقراطية شكلية، تُستخدم لتجميل صورة النظام في الخارج.

🏛️ 3. تثبيت النظام الملكي المطلق

  • سنة 1962، أصدر أول دستور مغربي، كرّس فيه صلاحيات واسعة للملك.
  • سنة 1965، علّق العمل بالدستور وأعلن حالة الاستثناء، ليحكم بمراسيم ملكية مطلقة لسنوات.
  • اعتمد على القصر كأداة تنفيذية، وأقصى تدريجيًا الأحزاب الوطنية من دائرة القرار.
  • زرع أحزابًا إدارية موالية (مثل الحزب الوطني الديمقراطي والاتحاد الدستوري) للحد من نفوذ المعارضة.

في عهده، أصبح البرلمان مؤسسة شكلية، والحكومة تنفذ توجيهات القصر، والأحزاب تخوض انتخابات محكومة سلفًا بالتوازنات المخزنية.

🛑 4. سنوات الرصاص: القمع في سبيل الاستقرار

عرفت السبعينات والثمانينات موجة من القمع العنيف:

كل ذلك تم باسم “الحفاظ على استقرار الدولة”، ما جعل البلاد تعيش في ظل خوف دائم، وذاكرة مثقلة بالانتهاكات.

📜 5. خطاب الملكية الدستورية: إصلاحات محسوبة

  • رغم الطابع السلطوي، قام الحسن الثاني بعدة إصلاحات شكلية:
    • دستور 1970: إقرار بعض صلاحيات البرلمان.
    • دستور 1992: تعبير عن رغبة في الانفتاح دون مسّ جوهر السلطة.
    • دستور 1996: إحداث مجلسين للبرلمان، تمهيدًا للتناوب التوافقي.
  • سنة 1998، كلف المعارض الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي بتشكيل حكومة، في ما سُمي “تناوبًا توافقيًا”. لكن السلطة الفعلية ظلت بيد القصر.

🌍 6. السياسة الخارجية: بين الشرعية والذكاء الدبلوماسي

  • تبنى الحسن الثاني سياسة خارجية متوازنة بين الغرب والعالم العربي.
  • تحالف استراتيجي مع فرنسا والولايات المتحدة، مما مكنه من حماية نظامه دوليًا.
  • التقى بمسؤولين إسرائيليين سراً، واحتضن حوارات سلام غير معلنة.
  • لعب دورًا إقليميًا في إفريقيا، وأسهم في دعم حركات تحرر، بينما عزز مواقفه عبر ورقة الصحراء المغربية.

كانت الدبلوماسية أداة بيده لتقوية الداخل عبر دعم الخارج.

🕌 7. الدين والشرعية: الملك أميرًا للمؤمنين

  • استثمر الحسن الثاني البعد الديني لتوطيد شرعيته السياسية.
  • قدّم نفسه كأمير للمؤمنين، وحامي المذهب المالكي.
  • استخدم خطب الجمعة، ودروس رمضان الملكية لتوجيه الرأي العام.

هذا الدمج بين السياسي والديني جعل معارضته أمرًا محفوفًا بالمخاطر، لأنها كانت تُعتبر أيضًا خروجًا عن الطاعة الدينية.

🧠 8. في المخيال الشعبي والنخبوي

  • شخصية مثقفة، يتحدث الفرنسية بطلاقة، ويستشهد بالفلاسفة الأوروبيين.
  • اعتبره البعض رجل دولة من الطراز العالي، فيما رآه آخرون مستبدًا صارمًا.
  • كتابه “ذاكرة ملك”، الذي صدر بالفرنسية سنة 1993، رسم صورة ذاتية مثالية، أثارت جدلًا واسعًا.

الحسن الثاني كان شخصية كارزمية، مثيرة للإعجاب والجدل في آنٍ واحد.

✅ خاتمة: إرث لا يزال حاضرًا

لم يكن الحسن الثاني مجرد حاكم، بل مهندس نظام سياسي ما زال مستمرًا في جوهره. ترك مغربًا موحّدًا لكنه مثقل بالذاكرة. ملكية قوية، لكنها تفتقر للمساءلة. مؤسسات منتخبة، لكنها محدودة الفاعلية.

واليوم، لا يمكن فهم الدولة المغربية، دون العودة إلى فلسفة الحكم التي أرساها الحسن الثاني، حيث الدولة لا تُفهم إلا من الأعلى، والسلطة لا تُمارس إلا من المركز.

أضف تعليق