حين تتوقف الحياة وتستمر: سردية تزممارت كما لم تُكتب من قبل لأحمد المرزوقي

ملخص كتاب تزمامرت الزنزانة رقم 10 لكاتبه أحمد المرزوقي،وهو ضابط سابق في الجيش المغربي، أحد الناجين من معتقل تزممارت، وقد دوّن شهادته الصادمة عن سنوات الاعتقال في هذا العمل الذي صار مرجعًا في أدبيات السجون السياسية بالمغرب والعالم العربي.

لم يكن ذلك مجرد اعتقال. لم تكن قصة رجل ساقته السياسة إلى زنزانة ضيقة ثم خرج بعد سنوات ليروي ما جرى. بل كان عطبًا في الزمان، ارتجاجًا في الجغرافيا، وشرخًا في جسد وطنٍ خاف من نفسه ذات لحظة. كانت البداية غير محسوبة. ضابط شاب في جيشٍ لا يعرف أنه على وشك أن يُستخدم، لا في الدفاع عن وطنه، بل في تنفيذ كابوس لم يكن له فيه لا رأي ولا إرادة. الصخيرات، القصر، الانقلاب… أسماء ترددت بعد أن صار كل شيء متأخرًا، وبعد أن أصبح الخطأ جماعيًا، لكن العقاب فرديًا، بشعًا، طويلًا، بلا رحمة ولا تفسير.

في الأيام الأولى، لم يكن يعرف أحد إلى أين تمضي القصة. كان هناك صمتٌ ثقيل في الوجوه، وخوفٌ مريب في نبرة الأوامر، وحالة من اللازمن تسيّدت كل شيء. ثم جاءت لحظة القرار: تزممارت. الاسم لم يكن يوحي بشيء. لم يكن معتقلًا معروفًا. لم يكن أحد يتحدث عنه. كان مجرد نقطة مجهولة في خريطة الصحراء المغربية، لكن الذين أُرسلوا إليها عرفوا سريعًا أن تلك النقطة الصغيرة تتسع لتبتلع حياة كاملة.

عند الوصول، لم تكن هناك كلمات، فقط أبوابٌ تُغلق، وجدرانٌ تبتلع الصوت، ورجالٌ فقدوا فجأة كل صفاتهم. لم يعودوا ضباطًا، ولا جنودًا، ولا حتى متهمين. صاروا مجرد أجساد تُوزّع على زنازين ضيقة، لا نوافذ فيها ولا هواء، يُغلق عليهم الباب وكأنهم قنابل يجب عزلها عن العالم، لا كي لا تنفجر، بل كي تموت ببطء دون أن يسمع أحد صوتها.

الحياة في تزممارت لم تكن تشبه السجن. لم يكن هناك حارس يأتي بانتظام، ولا قوانين واضحة، ولا نظام. كان هناك فقط قانون واحد: الصمت. الصمت كان حاكمًا. الصمت كان قاسيًا، لزجًا، ممتدًا. لا زيارات، لا أخبار، لا وجوه جديدة. فقط الليل والليل والليل. ومن حين لآخر، خطوات جندي لا يعرفك ولا يريد أن يعرفك، يرمي إليك شيئًا من طعامٍ لا طعم له، وماء لا يُطفئ الظمأ، ويتركك في عتمتك تتآكل.

كانت الزنازين بلا مرحاض. وكان التبول يتم في أوانٍ صدئة، تُغسل أحيانًا وأحيانًا لا. وكان الذباب، والرطوبة، والبرد، والجوع، والمرض، والانتظار، يشكلون الحياة اليومية. في النهار لا ضوء، وفي الليل لا ظلام صافٍ. كل شيء رماديّ، لزج، مشوّش. حتى الحواس اختلطت. لم تعد الشمّ كالسابق، ولا السمع، ولا حتى التذوق. الجسد لم يعد يتعرف على نفسه، والصوت الداخلي بدأ يتكلم كثيرًا… حتى صار هو الآخر مصدر تعب.

مرّت الأيام، ثم الشهور، ثم الأعوام، بلا ساعة، بلا تقويم. لم يكن لأحد أن يعرف كم مرّ عليه من الزمن. بعضهم بدأ ينحت علامات على الجدار، ثم نسي العدّ. بعضهم قرر أن لا يفكر، لأنه كلما فكّر ساءت حالته. بعضهم حاول الصلاة، القراءة، التذكر، اختراع القصص… لكن كل شيء كان يُجهض بفعل الألم. الألم الذي لا موضع له، لكنه يحاصر كل موضع.

كانوا اثنين وعشرين رجلاً، ثم صاروا واحدًا وعشرين، ثم عشرين، ثم أقل. كلما مات واحد، صار الصمت أكثر رعبًا. وكلما نُقلت جثة، صار الهواء أكثر ثِقلاً. كانوا يسمعون أنين بعضهم البعض، لكن لم يكن هناك من يقدر على المساعدة. من يمرض يُترك ليمرض أكثر، ومن يضعف يُترك ليضعف أكثر، ومن ينهار يُترك حتى يتحلل. وكانت الرائحة في بعض الزنازين تشبه رائحة الخشب الفاسد الممتزج بالحديد والعرق والانتظار الطويل.

لم تكن هناك فرصة للغضب. كان الغضب ترفًا. حتى الحقد لم يعد ممكنًا. المشاعر انهارت، وتحوّل الناس إلى كائنات لا تعرف هل ما تزال بشرًا أم لا. البعض نسي ملامح زوجته، البعض صار يخلط بين وجه ابنه ووجه زميله، البعض توقف عن الكلام، ثم توقف عن التفكير، ثم عن الحياة.

في تلك الظروف، أصبح الحنين مرضًا. التفكير في العالم الخارجي كان يؤلم أكثر مما يُعزّي. في تزممارت، كانت الحرية فكرة خطيرة. لأن التذكّر يعني المقارنة، والمقارنة تعني الغضب، والغضب يقتل ببطء. فصار كثيرون يُسلّمون بالأمر، لا عن قناعة، بل عن تعب.

لكن هناك من قاوم. لا بالشعار، ولا بالثورة، بل بالصبر. واحد اخترع ساعة من عقل. آخر صار يحفظ القرآن سورة سورة. ثالث علّم نفسه لغة جديدة من خلال تقطيع الكلمات. رابع صار يحادث النمل، لأن النمل كان أحيانًا هو الكائن الوحيد الذي يمرّ من زنزانة إلى أخرى.

بعضهم كان يُعيد سرد قصة حياته كل ليلة، كي لا ينساها. وبعضهم كان يختلق قصصًا كي لا يجنّ. وكان بينهم من فقد عقله بالفعل، صار يصرخ، أو يضحك بلا سبب، أو يخلع ثيابه، أو يحدث أشخاصًا غير موجودين. وفي كل مرة كان هذا يحدث، كانوا يعرفون أنهم باتوا على وشك أن يصيروا مثله، إن لم يتماسكوا أكثر.

وفي ليلة ما، بدأت أخبار من العالم تصلهم. إشارات خفيفة. كلام لم يتأكد بعد، لكنّه كان كافيًا ليوقظ الأمل. منظمة ما ذكرتهم. صحفي كتب عنهم. زوجة قاومت الصمت. رسالة عبرت. وبدأ الضوء يعود، لا إلى الزنازين، بل إلى العقل. صاروا ينتظرون. صاروا يعدّون من جديد. ليس الأيام، بل الفُرَص.

ثم جاء الفرج. لم يكن مفاجئًا تمامًا، لكنه جاء كما يأتي الفجر بعد ليل طويل: هادئًا، دون موسيقى. فُتحت الأبواب. خرجوا، فردًا فردًا. بعضهم على قدميه، بعضهم محمولًا، بعضهم شبه ميت. الشمس أربكتهم. الهواء أزعج رئاتهم. الناس بكت حين رأتهم، لأنهم لم يعودوا كما كانوا. لكنهم، رغم ذلك، عادوا.

خرجوا، لا ليطالبوا بالثأر، بل ليقولوا فقط: نحن هنا. خرجوا لا ليُجسّدوا المأساة، بل ليحكوا. لأن الحكاية وحدها كانت كافية لتجعل الذاكرة تقاوم.

أضف تعليق