🧭 فهرس مفصل:
- ⚖️ من نصر أنوال إلى تأسيس كيان سياسي: ولادة حلم الجمهورية
- 🏛️ هيكلة الجمهورية الريفية: القانون، الحكم، والجيش
- 🤝 علاقات الخطابي الخارجية: البحث عن اعتراف دولي ومحاولات التفاوض
- ⚔️ بداية التحالف الإسباني الفرنسي لسحق المشروع الريفي
- 💣 إنزال الحسيمة 1925: النار والغاز لإخماد الجمهورية
- ✊ النهاية العسكرية وبداية الإرث السياسي
- 🧠 الخطابي من الريف إلى المنفى: الفكر المقاوم في قلب القاهرة
- ✒️ الخاتمة: جمهورية الريف… الدولة التي سبقت زمنها
⚖️ من نصر أنوال إلى تأسيس كيان سياسي: ولادة حلم الجمهورية
لم يكن انتصار أنوال سنة 1921 نهاية لحكاية المقاومة الريفية، بل بدايتها الفعلية. فمحمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي قاد النصر العسكري، لم يكن يطمح إلى مجد شخصي ولا إلى السيطرة القبلية، بل إلى تأسيس كيان سياسي منظم يحكمه القانون بدل العرف، وتوحده السيادة الوطنية بدل الانتماء القبلي. وفي ظل فراغ السلطة في الشمال المغربي، وسقوط هيبة الاحتلال الإسباني، ظهرت الفرصة التاريخية التي طالما حلم بها: بناء دولة في الريف.
ما بين 1921 و1923، شرع الخطابي في إعادة تشكيل الحياة السياسية في المناطق المحررة. لم يكن ذلك مجرد إعلان رمزي، بل مشروع دولة بكل ما للكلمة من معنى. حيث تم وضع دستور مكتوب، وإنشاء مجلس شورى، وهيكلة الجيش، وتحديد حدود إدارية للجمهورية. وقد شملت هذه الحدود أغلب مناطق الريف الأوسط والشرقي، من الحسيمة إلى بني بوعياش، ومن تمسمان إلى أجدير، لتكوّن ما سُمّي لاحقًا بـ**”جمهورية الريف”**.
الجمهورية لم تُعلن دفعة واحدة، بل تطورت عبر مراحل. لكنها في صيف 1923 أصبحت أمرًا واقعًا، تُدار شؤونها اليومية من مقر القيادة بأجدير، وتُرفع فيها راية وطنية، ويُجمع فيها الضرائب، وتُرسل فيها الرسائل الدبلوماسية. ولأول مرة منذ عقود، أصبح للريف سلطة وطنية مستقلة، لا تتبع السلطان في فاس، ولا الحامية في مدريد.
لكن هذا الحلم، الذي أربك القوى الاستعمارية، لن يُترك ليكبر في سلام. فقد بدأت أعين فرنسا وإسبانيا تراقب هذا الكيان الوليد بقلق متزايد، خوفًا من أن تنتقل “عدوى الريف” إلى مناطق أخرى من إفريقيا.
🏛️ هيكلة الجمهورية الريفية: القانون، الحكم، والجيش
منذ اللحظة الأولى لتأسيس الجمهورية الريفية، حرص محمد بن عبد الكريم الخطابي على أن لا تكون تجربة حكمه مجرّد انتفاضة عشائرية أو سلطة أمر واقع، بل نموذجًا سياسيًا حديثًا، مستندًا إلى قواعد مؤسساتية واضحة، تحترم القانون وتُعلي من شأن الانضباط والتنظيم. لقد كان المشروع الريفي طموحًا، ليس فقط في سياقه الزمني بل حتى في مقارنته بدول قائمة حينها، مما جعل كثيرين يعتبرونه لاحقًا “الدولة المغربية المجهضة قبل الاستقلال”.
في قلب هذا الكيان، تم إنشاء ما عُرف بـ**”مجلس الشورى”**، وهو هيئة استشارية تمثل القبائل، وتشرف على التشريع المحلي، وإدارة الموارد، وتعيين القادة العسكريين. لم يكن المجلس رمزياً، بل كان فاعلًا في صناعة القرار، ما منح سكان الجمهورية الإحساس بالمشاركة السياسية والتمثيل، في وقت كان فيه معظم المغاربة تحت سلطة استعمارية مركزية لا صوت لهم فيها.
القوانين التي وضعتها الجمهورية لم تكن مرتجلة. فقد تم تدوين عدد من القوانين المدنية والإدارية مستوحاة من الشريعة الإسلامية وبعض مبادئ القانون الأوروبي الحديث، ما يعكس التكوين الثقافي المزدوج للخطابي، الذي كان فقيهًا من القرويين وفي الوقت نفسه رجل دولة مثقف مطّلع على نظم الغرب. وقد تم تنظيم الضرائب، ضبط التعاملات التجارية، وضع نظام عقوبات، وتحديد معايير تجنيد الجيش، ما أرسى دعائم دولة تحترم قواعد العمل المؤسسي.
أما الجيش الريفي، فكان العمود الفقري للجمهورية. لم يكن مجرد ميليشيا، بل كيان منظم، يخضع لتدريب، وتسلسل قيادي، ومراكز قيادة واضحة. تم تجنيد الآلاف من أبناء القبائل الريفية، ووُضعت لهم رتب، وشُكلت وحدات قتالية، بعضها متخصص في الكمائن، وبعضها في المدفعية التي استُخلصت من غنائم معركة أنوال. وقد بلغت الانضباطية في الجيش الريفي درجة عالية، جعلت حتى الصحافة الفرنسية تعترف بفاعليته، وتصفه بأنه “جيش نظامي يُقاتل بفكر عصابات”.
لكن الأهم من ذلك، أن الجمهورية لم تعتمد فقط على القوة، بل حاولت تأسيس نموذج للحكم المحلي الرشيد، حيث تم تعيين قضاة محليين، وإنشاء شبكات توزيع غذائي، وبنية لوجستية خفيفة، مما جعل السكان يشعرون بأنهم تحت رعاية وطنية لا استعمارية. وقد ساهم هذا في كسب ولاء القبائل التي لم تكن بالضرورة مؤدلجة، لكنها وجدت في الجمهورية الريفية أملًا ملموسًا في الكرامة والعدالة والأمن.
إلا أن هذا البناء لم يمر دون تحديات، إذ بدأت القوى الاستعمارية ترى في هذا الكيان تهديدًا مباشرًا لمصالحها، وكان لا بد من إعداد خطة للقضاء عليه قبل أن يتمدد أو يُلهم آخرين.
🤝 علاقات الخطابي الخارجية: البحث عن اعتراف دولي ومحاولات التفاوض
في ظل الحصار العسكري والتعتيم الإعلامي، لم يكتفِ محمد بن عبد الكريم الخطابي بإدارة شؤون جمهوريته داخليًا، بل أطلق جهدًا دبلوماسيًا جريئًا ومعقدًا في محاولة لتثبيت وجودها على الساحة الدولية. كان يدرك أن الاعتراف بالجمهورية الريفية لن يأتي بسهولة، لكنه كان أيضًا مقتنعًا أن المعركة السياسية لا تقل أهمية عن المواجهة المسلحة، وأن الشرعية الدولية هي إحدى ركائز بقاء المشروع.
بدأت التحركات الخارجية منذ الأيام الأولى بعد معركة أنوال، حين أوفد الخطابي رسائل إلى عواصم أوروبية كبرى – مدريد، باريس، لندن، بل وبرلين – يشرح فيها طبيعة الجمهورية، ويطالب بالاعتراف بها كسلطة شرعية تمثل سكان الريف. وقد أُرسلت هذه الرسائل بلغة قانونية مدروسة، تظهر الاطلاع العميق للخطابي على الأعراف الدبلوماسية، وتؤكد أن جمهوريته ليست حركة انفصالية أو فوضوية، بل سلطة بديلة شرعية عن إدارة استعمارية مهزومة.
ولم يتوقف الأمر عند الرسائل، بل حاول الخطابي التواصل مع منظمات غير حكومية وصحف عالمية، وخصوصًا في إنجلترا، حيث حظي بدعم غير رسمي من بعض دوائر اليسار والصحافة الحرة. كما أقام اتصالات غير مباشرة مع بعض الشخصيات التركية بعد قيام جمهورية مصطفى كمال أتاتورك، في محاولة لفهم كيف يمكن لدولة إسلامية ناشئة أن تعيد تموضعها في العالم بعد التحرر من الاستعمار والوصاية.
في الداخل العربي، كان الصدى أقوى، حيث أرسلت الوفود من مصر والشام تهنئة بالانتصارات، وبدأت تظهر مقالات في صحف مثل “الأهرام” و”المقتطف” و”لسان العرب” تصف الخطابي بـ”بطل التحرير” و”سيف المغرب المستقل”. حتى في المشرق، بدأت الأصوات تطالب بتبني الجمهورية الريفية كرمز للعرب في نضالهم ضد الاستعمار الغربي.
لكن الواقع الجيوسياسي كان معقدًا. فالدول الكبرى لم تكن مستعدة للاعتراف بكيان يزعزع التوازن الاستعماري في شمال إفريقيا، خصوصًا أن الاعتراف بجمهورية الريف كان سيعني ضمنًا الاعتراف بشرعية مقاومة مسلحة ضد سلطة أوروبية. ولهذا، ظلت جهود الخطابي محصورة في الدعم المعنوي وغير الرسمي، دون أن تتوّج بأي اعتراف دبلوماسي حقيقي.
وفي مقابل هذه المساعي السلمية، عرض الخطابي أكثر من مرة الدخول في مفاوضات مع إسبانيا، بشروط تضمن كرامة الشعب الريفي، وتمنحهم استقلالًا ذاتيًا ضمن نظام مغربي موحد. لكن كل العروض قوبلت برفض عنيف، إذ كانت مدريد ترى في التفاوض مع الخطابي اعترافًا غير مباشر بالجمهورية، وهو ما اعتبرته خطًا أحمر.
هكذا، وجد الخطابي نفسه محاصرًا بين مشروع طموح، وتعنت استعماري، وصمت دولي ثقيل، لتبدأ المرحلة الأكثر عنفًا من المعركة: التحالف الفرنسي الإسباني لإبادة الحلم.
⚔️ بداية التحالف الإسباني الفرنسي لسحق المشروع الريفي
عندما بدأت معالم “جمهورية الريف” تتضح كأمر واقع، وبدأ اسم محمد بن عبد الكريم الخطابي يتردد في العواصم كرمز لمقاومة منظمة وعصرية، أدركت كل من فرنسا وإسبانيا أن الخطر تجاوز الحدود الجغرافية وأصبح تهديدًا وجوديًا لمشروع الاستعمار نفسه في شمال إفريقيا. فقيام دولة وطنية في الريف، تحكمها مؤسسات قانونية وتتمتع بتأييد شعبي، كان بمثابة كابوس استراتيجي، يهدد بإثارة سلسلة من الانتفاضات في مناطق نفوذ الدولتين، من الجزائر إلى الجنوب المغربي.
إسبانيا، التي خرجت من أنوال مهزوزة، كانت عاجزة وحدها عن مواجهة التمدد الريفي، خاصة أن جيشها كان لا يزال يعاني من آثار الهزيمة، والانقسام الداخلي، وفقدان ثقة الجنود في القيادة. أما فرنسا، فقد كانت تُسيطر على المغرب الأوسط والجنوب بموجب الحماية، لكنها كانت تعلم جيدًا أن أي نجاح للخطابي سيشعل ثورة في المناطق التي تسيطر عليها، وخاصة في الأطلس والجنوب الشرقي حيث الغليان كان على أشده.
في هذا السياق، بدأت المحادثات بين باريس ومدريد سنة 1924، خلف الكواليس، للاتفاق على خطة عسكرية موحدة. ولأول مرة، تم وضع مشروع لـ”حرب شاملة منسقة” ضد الريف، رغم التناقضات التاريخية بين الطرفين. اجتمع قادة الجيشين، وتم تبادل الخرائط والمعلومات الاستخباراتية حول تحركات المقاومة، وتم الاتفاق على أن إسبانيا ستعيد انتشارها على الشريط الساحلي الشمالي، بينما ستتدخل فرنسا من الشرق والجنوب لمحاصرة الخطابي من الخلف.
المثير أن فرنسا لم تُعلن الحرب رسميًا، بل أرسلت قواتها تدريجيًا تحت ذريعة حماية حدودها ومصالحها. لكن الحقيقة أن أكثر من 160 ألف جندي فرنسي دخلوا إلى الأراضي الريفية من منطقة وجدة، مزودين بالطائرات، والدبابات، وغاز الخردل المحظور. لقد تحولت الأرض إلى حقل تجارب للأسلحة الكيماوية، حيث استخدمت فرنسا – ولأول مرة – غاز الكلورين والغازات السامة في جبال الريف ضد المدنيين والمقاتلين على حد سواء، في خرق صارخ لكل المعاهدات الدولية.
بين 1924 و1926، بدأ الريف يعيش حصارًا مزدوجًا خانقًا: من البحر حيث تم عزل السواحل، ومن الداخل حيث بدأت القرى تسقط تحت القصف الكيماوي العشوائي. ومع أن المقاومة الريفية صمدت ببسالة مذهلة، إلا أن الفارق العددي والتقني بين الطرفين كان صارخًا. لقد أصبح محمد بن عبد الكريم محاصرًا عسكريًا، ومحروما من الدعم الخارجي، ومطارَدًا سياسيًا بين قوتين عاتيتين اتفقتا على سحق حلمه.
ورغم كل ذلك، استمر الخطابي في القتال، ورفض كل العروض المهينة التي كانت تقترح عليه “الاستسلام مقابل ضمانات”، إلى أن جاء القرار الصعب… التوقف عن القتال تفاديًا لإبادة السكان، وهي اللحظة التي قادت إلى نهاية الجمهورية، ولكنها لم تُنهِ إرثها.
💣 إنزال الحسيمة 1925: النار والغاز لإخماد الجمهورية
في خضم هذا الحصار الخانق الذي ضربته إسبانيا وفرنسا على جمهورية الريف، جاء إنزال الحسيمة في 8 شتنبر 1925 كضربة عسكرية قاصمة، تم التخطيط لها بعناية لتكون المرحلة النهائية في عملية سحق المشروع الريفي. كان هذا الإنزال من أضخم العمليات العسكرية في تاريخ الاحتلال الأوروبي للمغرب، ليس فقط من حيث عدد القوات، بل من حيث وحشيته والأسلحة المستخدمة فيه.
قاد العملية من الجانب الإسباني الجنرال بريمّو دي ريفيرا، رئيس الحكومة الإسبانية آنذاك، بمساندة مباشرة من البحرية والطيران الفرنسي. وقد تم إنزال ما يزيد عن 18 ألف جندي إسباني على شواطئ الحسيمة في وقت واحد، مدعومين بأسطول من البوارج الحربية والطائرات، معززين بأحدث المعدات القتالية في أوروبا آنذاك، بما فيها قنابل الغاز السام، وراجمات النار، التي استُخدمت على نطاق واسع في جبال الريف لأول مرة في تاريخ الحروب الاستعمارية.
كانت الخطة تقضي بتطويق المنطقة الساحلية أولاً، ثم التوغل في العمق عبر ثلاث محاور، لتطويق القوات الريفية من جميع الجهات. لكن الريفيين لم يسلّموا مواقعهم بسهولة، فقاتلوا بضراوة في الوديان والمرتفعات، مستغلين تضاريس المنطقة لصالحهم، وأوقعوا بالإسبان خسائر كبيرة في الأيام الأولى. ومع ذلك، فإن التفوق العددي والتقني الكاسح، واستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المداشر والقرى، جعل من استمرار المقاومة في بعض الجبهات مستحيلًا.
ما جعل الإنزال أكثر مأساوية هو الاستهداف المنهجي للمدنيين، حيث تم قصف الأسواق، والقرى، والمواشي، ومصادر المياه، لتجويع السكان وقطع أي أمل في الإمدادات. وتُشير تقارير غير رسمية إلى أن آلاف المدنيين لقوا حتفهم بسبب غازات الأعصاب والكلور، وأن عددًا من المناطق المتضررة ستعاني لاحقًا من آثار بيئية وصحية مدمرة استمرت لأجيال، وهو ما جعل بعض الباحثين يصنّفون ما جرى في الحسيمة كـ**”جريمة حرب موثقة”**.
في قلب هذه المأساة، كان محمد بن عبد الكريم الخطابي يُدير المعركة من مقره في أجدير، محاولًا توزيع القوات، وتخفيف الخسائر، وفتح ممرات آمنة للمدنيين. لكن الانهيار كان متسارعًا، والتآمر الدولي كان مكشوفًا. فلم تعد القضية قضية مقاومة فقط، بل أصبحت مواجهة وجود بين رجل يحمل مشروعًا وطنيًا، وجيوش تحمي منظومة استعمارية عالمية.
كان إنزال الحسيمة بداية النهاية، لكنه لم يكن هزيمة في المعنى الأخلاقي، بل اغتيال مشروع تحرري متقدم في زمن كانت فيه الشعوب تبحث عن خلاصها بالسلاح أو بالدبلوماسية. وبقيت هذه المعركة نقطة سوداء في تاريخ فرنسا وإسبانيا، حيث طُويت تفاصيلها في أرشيفات رسمية، لكنها ظلت حيّة في ذاكرة الريف، كرواية عن النار والغاز، عن الصمود والبشاعة، عن حلم قُطع بسفينة حربية.
✊ النهاية العسكرية وبداية الإرث السياسي
في خريف عام 1926، وبعد خمس سنوات من الصمود والمواجهة ضد أقوى قوتين استعماريتين في العالم، أدرك محمد بن عبد الكريم الخطابي أن الاستمرار في القتال لم يعد ممكنًا، ليس عجزًا أو ضعفًا، ولكن رحمة بأهله، وحرصًا على ألا تتحول أرض الريف إلى محرقة بشرية. كانت القرى مدمرة، الجبال مشبعة بالغازات السامة، والناس في حالة إنسانية مأساوية، بين لاجئ، وجريح، ومُحاصر.
في 26 ماي 1926، قرر الخطابي تسليم نفسه للقوات الفرنسية، شرط عدم تسليمه للإسبان الذين كان يراهم الأشد وحشية. وبالفعل، استسلم الخطابي بشرف، دون توقيع اتفاق استسلام مذل، ودون أن يرفع راية بيضاء، بل بتفاوض مباشر مع الضباط الفرنسيين الذين أقروا في وثائقهم بشجاعته، وبأنهم لم يتمكنوا من كسره عسكريًا، بل أجبرهم الوضع الإنساني للمدنيين على الضغط.
وهكذا طُويت صفحة الجمهورية الريفية ككيان سياسي، لكنها انفتحت كإرث فكري ومصدر إلهام للأجيال القادمة. فالرجل الذي هز عرش مدريد، وأجبر باريس على تحريك نصف مليون جندي، لم يُهزم، بل أُجبر على إيقاف القتال حفاظًا على أرواح قومه.
بعد ترحيله إلى جزيرة لارينيون في المحيط الهندي، ظنت القوى الاستعمارية أنها تخلّصت من خطابي إلى الأبد. لكنه ظل هناك ينظّم أفكاره، ويكتب، ويتأمل، قبل أن يُسمح له في 1947 بالسفر إلى فرنسا ومنها إلى مصر، حيث بدأ فصل جديد من المقاومة، لكن هذه المرة عبر الكلمة، والفكر، والعمل المشترك مع الحركات التحررية العربية.
الجمهورية التي دامت خمس سنوات فقط، أصبحت لاحقًا نموذجًا تتعلم منه حركات التحرير، وتستشهد بتجربتها قوى النضال الوطني من الجزائر إلى فلسطين. وقد كتب عنها مفكرون عالميون، وأدرجتها الأمم المتحدة في مداولات حق الشعوب في تقرير مصيرها، وكرّمها التاريخ باعتبارها أول دولة وطنية أمازيغية – مغربية – شعبية في العصر الحديث.
لم تكن النهاية إذًا نهاية مشروع، بل بداية نواة صلبة لفكرة الاستقلال الحقيقي. ومن رحم الجبال المحاصرة، خرج فكر جديد يُؤمن أن مقاومة الاستعمار لا تكون فقط بالبندقية، بل أيضًا بالعقل والكرامة والذاكرة.
🧠 الخطابي من الريف إلى المنفى: الفكر المقاوم في قلب القاهرة
عندما نُقل محمد بن عبد الكريم الخطابي من منفاه في جزيرة لارينيون إلى فرنسا عام 1947، كان العالم قد تغيّر: الحرب العالمية الثانية انتهت، وحركات التحرر بدأت في التشكل، وروح المقاومة تنبعث من المستعمرات القديمة في آسيا وإفريقيا. لكن الخطابي لم يكن رجلًا انتهت مهمته في الريف. على العكس، فقد كان يحمل في ذهنه خريطة جديدة للمقاومة، لا ترتبط بجبل أو بندقية، بل بشبكات من الوعي والعمل السياسي العربي المشترك.
في مصر، حيث كان الملك فاروق يحكم قبل ثورة الضباط الأحرار، تمكن الخطابي من الهروب من الإقامة الجبرية الفرنسية بمجرد وصوله إلى ميناء بورسعيد، في عملية ذكية ومحكمة نظّمها أنصاره والدوائر الوطنية المصرية. وهناك، في قلب القاهرة، بدأ فصل جديد من حياته: قائد مقاومة سابق يتحوّل إلى أب روحي لحركات التحرير العربية والمغاربية.
سرعان ما أصبح منزله في القاهرة ملتقى للمجاهدين والمنفيين من الجزائر، تونس، المغرب، وليبيا. أسّس ما عُرف بـ**”لجنة تحرير المغرب العربي”**، التي ضمت شخصيات ثورية بارزة، وبدأ العمل على تنسيق الدعم العربي للمقاومة المسلحة في بلدان شمال إفريقيا. لم يكن الخطابي مجرد رمز، بل كان يخطط، يكتب، يستقبل الوفود، ويتراسل مع الحركات التحررية، حتى أن بعض قادة الثورة الجزائرية قالوا لاحقًا:
“الخطابي لم يكن في الريف فقط، بل كان معنا في كل خطوة في جبهة التحرير.”
وفي القاهرة، التقى بقادة كبار مثل جمال عبد الناصر، هواري بومدين، فرحات عباس، أحمد بن بلة، وغيرهم. كما تواصل مع الفلسطينيين واليمنيين، ووجّه خطابات نارية عبر إذاعات المقاومة، داعيًا إلى وحدة الصف العربي ضد الاستعمار الفرنسي والبريطاني.
لكن دوره لم يكن فقط سياسيًا؛ فقد لعب الخطابي دور المفكر، يؤطر الفعل الثوري داخل رؤية حضارية تحررية إنسانية، حيث شدد في خطاباته ومقابلاته على أن الاستقلال لا يعني فقط طرد المحتل، بل بناء الدولة العادلة، وإصلاح التعليم، وتمكين الشعوب من أدوات السيادة الثقافية والاقتصادية.
بقي في القاهرة حتى وفاته سنة 1963، ورفض العودة إلى المغرب بعد الاستقلال، لأنه اعتبر أن “الاستقلال الناقص لا يشرّف”. توفي دون أن تطأ قدماه تراب الريف من جديد، لكن أفكاره بقيت حيّة، وصورته ظلّت تُرفرف في مظاهرات الرباط والجزائر وتونس.
هكذا، تحول الخطابي من “زعيم ميداني” إلى “معلّم تاريخي”، ومن قائد معركة إلى مرجع في الفعل السياسي المقاوم، تاركًا وراءه ميراثًا متوهجًا لا يزال يُلهم كل من يؤمن أن التحرر ليس لحظة… بل مسار من الفكر والإرادة والصمود.
✒️ الخاتمة: جمهورية الريف… الدولة التي سبقت زمنها
عندما نسترجع قصة جمهورية الريف، لا نقرأ مجرد سطور عن كيان وُلد في خضم معركة وانطفأ تحت القصف، بل نقرأ إعلانًا مبكرًا عن حلم الدولة الوطنية الحديثة في شمال إفريقيا. لقد جاءت هذه الجمهورية في زمن لم تكن فيه مفردات “الاستقلال”، و”الدستور”، و”الجيش الوطني”، و”التعليم التحرري”، متداولة في معظم دول الجنوب، بل كانت حكراً على القوى الاستعمارية.
ومع ذلك، وفي قلب الجبال الريفية الصعبة، تأسس مشروع سياسي جريء، قاده رجل لا يملك إلا إيمانه بشعبه، ومعرفته بالواقع، ووعيه بما يدور في العالم. محمد بن عبد الكريم الخطابي لم يكن من أولئك الذين يبحثون عن حكم أو سلطة شخصية، بل كان رجل دولة حقيقي، فهم التاريخ، وقرأ تحولات القوة، وأراد أن يمنح بلاده فرصة لتكون حرة، موحدة، قائمة على القانون والعدالة، قبل أن تفرض القوى الاستعمارية رؤيتها ونهجها بالقوة.
لم تكن جمهورية الريف مجرد رد فعل على الاحتلال الإسباني، بل كانت مشروعًا مضادًا للمنظومة الكولونيالية بكاملها. وقد أرّقت باريس كما مدريد، لأنها أثبتت أن الشعوب قادرة على تنظيم نفسها، وإنشاء دولها، دون وصاية أو تقسيمات مفروضة من الخارج. ولهذا، لم يكن قرار سحقها عسكريًا فحسب، بل سياسيًا ورمزيًا: يجب دفن هذا الحلم كي لا ينتقل إلى باقي الشعوب.
لكن الحلم لم يُدفن. فالجمهورية التي دامت خمس سنوات، ظلت حية في الذاكرة، في الأغاني الريفية، في الأرشيفات السرية، في مذكرات الثوار، وفي أعين الشيوخ الذين قصّوا الحكاية على أحفادهم. ظلت رمزًا للكرامة، ولإمكانية إقامة دولة من لا دولة، ولسؤال ظل يتردد: ماذا لو تُركت جمهورية الريف تكبر؟ هل كان تاريخ المغرب والمنطقة سيكون مختلفًا؟
ورغم قسوة النهاية، فإن أثر الجمهورية أبدي، لأنها كانت الدولة التي سبقت زمنها، الدولة التي أرادت أن تقول للمغاربة والعرب والأفارقة:
“نحن نستطيع، بشرط أن نؤمن، وننظم، ونتحد.”