📍 إعداد: histoiredumaroc.com – من المغرب، لكل المغاربة
⚖️ لم يكن يوم 30 مارس 1912 مجرد توقيع على ورقة، بل لحظة فاصلة تحولت فيها دولة ذات سيادة إلى مجال محكوم بمقاييس استعمارية. وقّع السلطان عبد الحفيظ على معاهدة الحماية، فانهارت قرون من الاستقلال المغربي لصالح احتلال مقنّع سيتحوّل لاحقًا إلى استعمار مباشر.
🧭 الطريق إلى مارس 1912: من فاس إلى الانكسار
حين ننظر إلى توقيع معاهدة الحماية سنة 1912، فلا يمكننا أن نفهم معناها الحقيقي دون العودة عقودًا إلى الوراء، حيث بدأت خيوط المؤامرة تنسج ببطء، في صمت، وسط اضطرابات داخلية وتطاحنات دولية. لم يكن المغرب في تلك اللحظة التاريخية دولة منهارة بالكامل، لكنه كان جسدًا منهكًا يتكالب عليه الذئاب من كل جهة.
مع وفاة السلطان الحسن الأول سنة 1894، انتهت مرحلة من التوازن الحذر، ودخل المغرب في دوامة من الهشاشة السياسية. السلطان الجديد، عبد العزيز، كان شابًا قليل التجربة، تولّى الحكم وهو في السادسة عشرة من عمره، فوجد نفسه في بلاط تغلغلت فيه النفوذ الأجنبية، وتزايدت فيه سلطة القناصل الأوروبيين الذين باتوا يتحكمون في القرارات السيادية من خلف الستار.
في عهد عبد العزيز، تسارعت وتيرة الانفتاح غير المحسوب على الغرب. أبرمت الدولة المغربية اتفاقيات اقتصادية كارثية مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا، تضمنت قروضًا ثقيلة وفوائد مرتفعة، كبلت خزينة البلاد، وجعلت الاقتصاد المغربي رهينة لدى البنوك الأوروبية، وعلى رأسها بنك باريس والبلاد المنخفضة. وكانت اتفاقية القرض الفرنسي سنة 1904 نموذجًا صريحًا على هذا الارتهان، حيث تم رهن مداخيل الجمارك المغربية مقابل مبلغ زهيد بالكاد كفى لتسديد النفقات المتزايدة للدولة.
في الموازاة، تعالت أصوات السخط الشعبي في المدن والبوادي، حيث بدأت تظهر معالم التفكك في الإدارة، وتراجعت هيبة المخزن، وانفلتت زمام الأمن في عدة مناطق، خاصة في الجنوب والريف. وبات الناس يتحدثون عن “بلاد السيبة” مقابل “بلاد المخزن”، وهو انقسام حقيقي بين مناطق لا تعترف بسلطة الدولة، وأخرى خاضعة اسمياً للعرش.
وفي سنة 1907، وقعت حادثة مفصلية حين دخلت القوات الفرنسية مدينة الدار البيضاء بعد تمرد ضد مشروع مدّ سكة حديد فرنسي على أنقاض مقبرة إسلامية. كان الأمر في الظاهر شجارًا محليًا، لكن فرنسا استغلته ذريعة لاحتلال المدينة عسكريًا، وفرض سيطرتها عليها. وأُرسلت فرق عسكرية إلى الدار البيضاء تحت ذريعة “حماية الأجانب”، فكانت تلك أول خطوة فعلية للاحتلال.
ردود الفعل كانت محتشمة، إذ لم تكن الدولة تملك الوسائل الكافية للرد العسكري، كما أن البلاط غرق في الانقسامات. ساءت سمعة السلطان عبد العزيز بسبب قربه من الأوروبيين وظهوره بمظهر “المتفرنج”، خاصة بعد أن شوهد وهو يلهو بدراجة هوائية ويدعو إلى إصلاحات ذات طابع غربي. أدى ذلك إلى بيعة مضادة لصالح أخيه عبد الحفيظ سنة 1908، في ما عُرف بـ”البيعة الحفيظية”، مما أدخل البلاد في صراع سلطوي داخلي.
ومع وصول السلطان عبد الحفيظ إلى العرش، ارتفعت التطلعات لدى بعض علماء فاس وسكان المدن بأن القادم الجديد سيتصدى للنفوذ الأجنبي، لا سيما أنه عُرف بتشدده تجاه فرنسا خلال فترة ولايته في مراكش. غير أن الواقع كان أكثر تعقيدًا، ففرنسا كانت قد أحكمت الطوق العسكري والاقتصادي والدبلوماسي حول المغرب.
في سنة 1911، بلغت الأزمة ذروتها حين شهدت مدينة فاس انتفاضة شعبية عنيفة ضد الحامية الفرنسية. هذه الانتفاضة، التي كانت عفوية وشعبية في الغالب، فجّرت الوضع، فاستغلت فرنسا الأمر لتُرسل قوات إضافية إلى المغرب. في خضم هذا التوتر، جاءت حادثة أغادير التي تدخلت فيها ألمانيا عبر إرسال سفينة حربية إلى سواحل المدينة في محاولة لموازنة الكفة أمام التوسع الفرنسي. كاد الوضع ينفجر بين القوتين الأوروبيتين، لكن فرنسا وألمانيا توصّلتا إلى تسوية سرية تتضمن اعتراف ألمانيا بالسيطرة الفرنسية على المغرب، مقابل حصولها على أراضٍ في الكاميرون.
كل هذه الأحداث المتشابكة وضعت السلطان عبد الحفيظ في موقع العاجز. كان الرجل يعيش في قصر فاس تحت الحصار العسكري، والخزينة خاوية، والقبائل غاضبة، والمخزن منقسم، بينما تحيط الجيوش الفرنسية بالبلاد من كل الجهات. لم يكن لديه خيار سوى التوقيع، لا على معاهدة تفاوضية، بل على وثيقة استسلام ناعم صاغها الفرنسيون بدقة، ليتم توقيعها يوم 30 مارس 1912 بمدينة فاس، معلنة رسميًا أن المغرب صار تحت “الحماية الفرنسية”.
كان التوقيع على تلك الورقة هو لحظة سقوط العاصمة السياسية والمعنوية، وفقدان السيادة باسم القانون.
⚔️ انتفاضات ومقاومات… لكنها كانت متناثرة
بينما كانت فرنسا تحكم خططها في دهاليز الاتفاقيات الدولية ومكاتب الاستخبارات الاستعمارية، لم يكن المغاربة في سكون. على امتداد جبال الأطلس، وسهول الشاوية، وسواحل الدار البيضاء، تحركت شرارات مقاومة تلقائية، لم تكن منظمة بشكل مركزي، لكنها عبّرت عن رفض شعبي عارم لكل أشكال الهيمنة الأجنبية.
من أبرز هذه الانتفاضات، كانت مقاومة قبائل الشاوية سنة 1907. حين حاول الفرنسيون مدّ سكة حديد من ميناء الدار البيضاء إلى مرآبهم العسكري، اصطدموا بحساسية دينية لدى السكان، حيث مر المشروع فوق مقبرة إسلامية، فثار الأهالي وهاجموا الورش والجنود. الرد الفرنسي كان مريعًا: قصف مدفعي على المدينة من البحر، ثم اجتياح بري دموي خلف مئات القتلى، واحتلال مباشر للدار البيضاء.
لكن النار لم تخمد، بل انتقلت إلى الداخل. مقاومة سطات اندلعت في نفس السنة، حيث هاجمت قبائل دكالة والحوز مواقع الاحتلال، واعتمدت تكتيك الكر والفر، مما أربك القوات الفرنسية المدربة. وبالرغم من كون هذه المقاومة محلية وغير مدعومة بمخزن مركزي، فقد مثّلت أول امتحان عسكري حقيقي للفرنسيين على الأراضي المغربية، وأجبرتهم على تعزيز وجودهم بالآلاف من الجنود.
في الشمال، كانت القبائل الريفية تراقب الأحداث. وعلى الرغم من أنها لم تدخل ساحة المعركة بشكل منظم حتى منتصف العشرينيات، فإن بعض الزعماء المحليين، مثل الشريف أمزيان، بدأوا تنظيم مقاومات سرية مبكرة ضد الزحف الإسباني في الريف، بتواطؤ ضمني من الفرنسيين. كانت الجبهة الشرقية أيضًا تعرف حركية، خاصة من قبائل بني كيل وبني مطير الذين كانوا على احتكاك دائم مع قوافل فرنسية تريد مدّ نفوذها من الجزائر نحو فكيك.
وفي مناطق الجنوب، كانت قبائل الأطلس الكبير والصغير ترفض الدخول تحت سلطة الدولة المركزية، فما بالك بالحماية الفرنسية. هذه القبائل، ذات البنية العسكرية التقليدية، كانت تتمتع باستقلال ذاتي منذ قرون، ورفضت الاعتراف بأي سلطان جديد موالٍ للأجنبي. رفضها هذا لم يكن دومًا سياسيًا بمفهوم العصر، بل دفاعًا عن نمط حياتها، ومجالها الجغرافي، وشرفها القبلي.
ووسط هذا الغليان، اندلعت أحداث فاس الدامية في أبريل 1912، بعد أسابيع قليلة من توقيع معاهدة الحماية. كانت القوات الفرنسية قد بدأت بفرض سيطرتها على المدينة، وشرعت في تمشيط الأحياء الشعبية لإخماد الاحتجاجات. ولكن الجنود المغاربة العاملين في الجيش الفرنسي تمردوا فجأة وهاجموا قادتهم، فاندلع قتال شرس وسط أزقة المدينة العتيقة. التحمت الجموع الشعبية مع الجنود الغاضبين، وحدثت مذبحة متبادلة أُحرقت فيها الإدارات، وسُفك فيها دم كثير، فكانت بمثابة إعلان شعبي صريح برفض الحماية، حتى قبل أن يجف حبر المعاهدة.
ورغم شجاعة هذه الانتفاضات، إلا أنها ظلت منفصلة، غير مترابطة، تفتقر إلى قيادة موحدة أو مشروع وطني جامع. لم تكن هناك جبهة مقاومة شاملة، بل جيوب تمرد متفرقة. وهذا ما جعل فرنسا تنجح في احتوائها تدريجيًا، عبر ضربات مركزة، واتفاقيات مع بعض الزعامات، وتقديم وعود مخادعة بالإصلاح.
لكن هذه الانتفاضات، ورغم محدودية نتائجها العسكرية، لعبت دورًا جوهريًا في تشكيل الوعي السياسي المغربي، وفضحت باكرًا هشاشة مزاعم “الحماية” كغطاء قانوني لما هو في الحقيقة احتلال عسكري متكامل الأركان.
✒️ السلطان عبد الحفيظ… بين المطرقة والسندان
لم يكن السلطان عبد الحفيظ بن الحسن شخصًا عاديًا في تاريخ المغرب الحديث، بل كان تجسيدًا حيًا لمأساة السلطان الذي دخل الحكم باسم “الغيرة على الوطن”، وخرج منه مكبّل اليدين بوثيقة معاهدة أنهت استقلال المغرب. جاء إلى العرش على وقع احتجاجات شعبية وزخم نخبوي يندد بتفريط أخيه عبد العزيز في سيادة البلاد، فبايعه العلماء والفقهاء في فاس عام 1908، بعد أن رفعوا شعار “الجهاد ضد التبعية والفساد”.
لكن السلطان الجديد، الذي كان يأمل في لملمة ما تبقى من هيبة الدولة، وجد نفسه وسط ألغام ملتهبة: خزينة خاوية، جيش مفكك، قبائل متأهبة للتمرد، وقناصل أجانب يراقبون كل حركة داخل القصر الملكي. لم يكن يحكم دولة ذات سيادة، بل رقعة من الأرض تتنازع عليها القوى الأجنبية، حيث كانت فرنسا قد ثبتت أقدامها في الدار البيضاء والشاوية، فيما كانت إسبانيا تفرض سطوتها على تطوان والعرائش، بينما تشن ألمانيا ضغوطًا سياسية واقتصادية لدخول الحلبة.
في البداية، حاول عبد الحفيظ أن يلعب على توازن القوى، فأرسل بعثات دبلوماسية إلى إسطنبول والمشرق العربي، بحثًا عن دعم من الدولة العثمانية، لكنه عاد خالي الوفاض، فقد كانت تركيا غارقة في مشاكلها الداخلية وتفتقد القدرة على حماية المسلمين خارج حدودها. كما أجرى اتصالات مع ألمانيا التي وعدته سرًا بالدعم، لكنها في الكواليس عقدت اتفاقًا مع فرنسا يقضي بالتخلي عن المغرب مقابل تعويضات استعمارية في الكاميرون، في ما عرف بـالتفاهم الفرنسي-الألماني سنة 1911.
وسط هذه الخيانات الصامتة، بدأت فرنسا تكثف وجودها العسكري في البلاد، وتحيط العاصمة فاس بقواتها. لم يعد السلطان قادرا حتى على السيطرة على مجال حركته، وكانت تقارير المقيم العام الفرنسي تُكتب وكأنها فوق ظهائر السلطنة.
في هذه اللحظة الحرجة، وجد عبد الحفيظ نفسه في عزلة سياسية قاتلة. حاول استدعاء القبائل لنصرته، لكنها كانت إما متوجسة من عودته إلى سياسة أخيه، أو منهكة من الحروب السابقة. أما النخبة الفاسية التي دعمته، فقد انقسمت بين من يعتبره خائنًا لآمالهم، ومن لا يزال يراهن على مناورة أخيرة للإنقاذ.
وفي يوم 30 مارس 1912، وهو في قصره بفاس، جلس السلطان عبد الحفيظ أمام المندوب الفرنسي يوجين رينو، ليوقع على معاهدة الحماية التي صاغتها فرنسا مسبقًا دون أي نقاش حقيقي. لم يكن سلطانًا يفاوض، بل رجلًا محاصرًا وقع على استسلام صامت. تقول بعض الروايات أن عبد الحفيظ قرأ المعاهدة بصوت خافت، ثم وقعها بنظرات زائغة، وكأنه يوقّع على نهاية سلطانه.
لم تكد تمر أيام على توقيع المعاهدة، حتى أُجبر على التنازل عن العرش لصالح أخيه يوسف، وتم نقله في سرية إلى طنجة، ومنها إلى إسبانيا، ثم إلى جنوب فرنسا حيث عاش في نوع من “المنفى الذهبي”. حصل على معاش مريح من الحكومة الفرنسية، وتنقل في أوروبا متنكرًا بين الأرستقراطية، بعيدا عن بلده الذي باعه بالقلم.
عبد الحفيظ الذي بدأ سلطانه بشعار “إنقاذ المغرب”، أنهى مساره بصفته السلطان الذي وقع وثيقة سقوط السيادة. ولا تزال صورته في الذاكرة التاريخية للمغاربة محاطة بكثير من الالتباس والتناقض: هل كان خائنًا؟ أم سلطانًا مكرهًا لا حول له ولا قوة؟ هل كان يعلم أن ما يوقعه نهاية وطن؟ أم كان يأمل في تأجيل الكارثة فقط؟
أياً تكن الإجابة، فإن اسمه ارتبط بأكثر لحظة مذلة في تاريخ السيادة المغربية، ومنذ ذلك اليوم صار التوقيع في فاس رمزًا للانكسار، ومقدمة لعقود من الاستعمار والعنف والتهجير.
🏛️ بنود المعاهدة: كيف سُلِبت السيادة؟
في عالم السياسة، تكمن الشياطين دائمًا في التفاصيل. ومعاهدة الحماية التي وقّعت يوم 30 مارس 1912 في مدينة فاس لم تكن استثناءً. كانت وثيقة ظاهرها تنظيمي، لكن باطنها تفكيكيّ لهياكل الدولة المغربية. لم تُسلب السيادة عبر الدبابات وحدها، بل أُخذت بالكلمات والعبارات القانونية المدروسة بعناية، والتي نسجها الخبراء الفرنسيون بإتقان يكاد يوازي إتقان الجراح في غرفة العمليات.
الوثيقة مكوّنة من عشرين بندًا، تمت صياغتها بلغة دبلوماسية ناعمة، لا تحتوي على أي تعبير مباشر مثل “احتلال” أو “ضمّ”، بل تُكرر كلمة “حماية” في أكثر من موضع، للإيحاء بأن فرنسا جاءت لمساعدة السلطان، لا لنزع سلطته.
لكن القراءة الدقيقة للبنود تكشف عكس ذلك تمامًا. إليك أبرز ما تضمّنته المعاهدة، من حيث البنود والنتائج الفعلية:
📌 1. تسليم السيادة الإدارية والعسكرية:
نصّت المعاهدة على أن فرنسا ستتولى تنظيم شؤون الدفاع، الأمن، والداخلية، بما في ذلك تكوين الجيش المغربي وتوجيهه، وإعادة هيكلة الأجهزة الإدارية المخزنية. عمليا، هذا يعني أن السلطان فقد سلطته على الجيش، ولم يعد يملك قرار الحرب ولا السلام، ولا تعيين القواد والولاة.
📌 2. إدارة الشؤون الخارجية:
بموجب البند السادس، تنازل السلطان عن حق المغرب في ممارسة أي علاقات خارجية أو توقيع اتفاقيات دولية. أُغلق الباب الدبلوماسي في وجه المغرب، وصارت السفارات والقنصليات المغربية تحت إشراف فرنسا. حتى في المؤتمرات الدولية، لم يُسمح للمغرب بالتمثيل إلا من خلال فرنسا.
📌 3. الإصلاحات الاقتصادية والمالية تحت الوصاية:
تضمنت المعاهدة “إصلاح النظام المالي”، وهو تعبير يُخفي قرارًا خطيرًا: تحويل إدارة الضرائب، الجمارك، العملة، والبنوك إلى المقيم العام الفرنسي. وهكذا تم تجريد المخزن من مفاتيح الاقتصاد، وأُسندت المهام الحيوية إلى خبراء فرنسيين، وتحولت خزينة الدولة إلى مجرد فرع من الإدارة المالية الفرنسية.
📌 4. القضاء والعدالة تحت إشراف فرنسي:
أقرت المعاهدة بضرورة “تحديث النظام القضائي المغربي”، ما فتح الباب أمام إنشاء محاكم فرنسية موازية، تُحاكم الأجانب والموالين للنظام الجديد، وفق قوانين غريبة عن البلاد. كما شُرّع ما سُمّي بـ”نظام الحماية القنصلية”، الذي منح امتيازات قانونية للتجار الأجانب تفوق امتيازات المغاربة أنفسهم.
📌 5. تقييد دور السلطان:
السلطان، رغم بقائه على رأس الدولة اسميًا، لم يعد يملك من أمره شيئًا. كل الظهائر والقرارات أصبحت تمر عبر موافقة المقيم العام. وكانت فرنسا حريصة على إبقاء السلطان كواجهة دينية فقط، تؤمّن بها شرعية شكليّة، بينما تحكم البلاد فعليًا من مقر الإقامة العامة بالرباط.
📌 6. “وعد” بالحفاظ على الدين والعادات:
ولذر الرماد في العيون، تضمنت المعاهدة بندًا تعهدت فيه فرنسا بـ”احترام الدين الإسلامي، والمؤسسات الشرعية، والتقاليد المحلية”. لكنه كان وعدًا أجوف، سرعان ما تهاوى مع فرض المناهج الفرنسية، وإقصاء العربية من مؤسسات التعليم، وإنشاء شبكة من المدارس الفرنسية تستهدف النخب الجديدة.
🧠 الاستعمار بالقلم… لا بالسلاح فقط
هذه البنود لم تكن مجرد سطور، بل مشروع استعماري متكامل لإعادة تشكيل الدولة المغربية على النمط الفرنسي. فقدت البلاد مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والمالية، وأُخضعت لبيروقراطية استعمارية دقيقة لا تترك فراغًا يمكن أن يتنفس منه أي صوت وطني.
وبينما كان بعض المغاربة يظنون أن “الحماية” ستكون مؤقتة، أو على الأقل شراكة، سرعان ما اكتشفوا أن الأمر لم يكن سوى احتلال مقنّع، بغطاء قانوني أعطى لفرنسا اليد الطولى في كل شيء، من تعيين القواد إلى اختيار الكتب المدرسية.
لقد تحوّلت المعاهدة إلى أداة تفكيك لا ترميم، واستُخدمت في سنوات قليلة لإعادة رسم المغرب على هوى باريس، بدءًا من الخرائط، مرورًا بالموانئ، وصولًا إلى نظم العدالة والتعليم والتخطيط العمراني.
في النهاية، فإن معاهدة الحماية لم تكن فقط “ورقة وقعها سلطان”، بل كانت عقد إذعان بين طرف ضعيف ومهيمن استعماري مدجج بالقوة والدهاء. وما زال التاريخ المغربي المعاصر يعيش تداعياتها حتى بعد الاستقلال، في اللغة، في الإدارة، وفي البنية العميقة للدولة.
🧩 من الحماية إلى الاستعمار… تغيّرت المفردات وبقي الاحتلال
من يقرأ معاهدة 30 مارس 1912 من منظور لغوي فقط، قد يتوهم أن المغرب دخل مرحلة “تنظيم إداري” متقدم برعاية دولة صديقة. لكن الحقيقة التي تكشّفت سريعًا كانت غير ذلك تمامًا. فاللفظ الذي أُريد له أن يكون مطمئنًا – “الحماية” – لم يكن سوى غطاء بلاغي لمشروع استعماري كامل الأركان، يقوم على الهيمنة والسيطرة وإعادة الهيكلة، لا على الشراكة أو التعاون كما أوهمت الوثيقة.
فرنسا كانت ذكية في اختيار مصطلحاتها. لم تستخدم كلمة “الاستعمار” بشكل صريح في تعاملها مع المغرب، رغم أنها كانت القوة الفعلية الحاكمة. والسبب في ذلك كان مزدوجًا:
- داخليًا: حتى لا تثير موجة رفض صريحة بين المغاربة الذين كانوا لا يزالون يتشبثون بالسلطان كرمز ديني ووطني.
- دوليًا: لتفادي الاصطدام مع باقي القوى الأوروبية التي كانت تراقب التوازنات الاستعمارية بحذر، خصوصًا بريطانيا وألمانيا.
لكن الواقع كان أبلغ من الكلمات. في أول سنة فقط بعد توقيع المعاهدة، أسست فرنسا مقر الإقامة العامة بالرباط، وبدأت تُصدر من هناك كل الأوامر التي كانت تمسّ الشؤون الحيوية للدولة: من تعيين الباشاوات والقياد، إلى الإشراف على مناهج التعليم، مرورًا بتنظيم الضرائب، وضبط الأمن، وتنظيم القضاء.
تحولت الرباط تدريجيًا من مدينة صغيرة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، بينما فاس، عاصمة السيادة التقليدية، أصبحت رمزًا للانكسار. وأما السلطان، فقد ظل يسكن قصره ويلقي الخطب الدينية ويوقّع الظهائر، لكن كل شيء يمر عبر يد الفرنسيين.
📉 السلطان… ظل بلا ظل
لم يعد للسلطان سلطة حقيقية. في الظاهر، بقيت صورته مطبوعة على النقود، وذُكر اسمه في الخطب، لكن خلف الكواليس، كانت كل القرارات تمر عبر المقيم العام. لم يكن السلطان يملك حتى حق تعيين خادم في قصره دون موافقة الإدارة الفرنسية. لقد تحوّل من أمير المؤمنين إلى موظف بروتوكولي يعمل تحت سقف سلطة استعمارية لا تعترف إلا بمصالحها.
🏗️ دولة تُبنى من جديد… ولكن على أنقاض الدولة القديمة
لم تكتفِ فرنسا بالسيطرة، بل شرعت في إعادة تشكيل المغرب بالكامل. تم اعتماد اللغة الفرنسية كلغة الإدارة والمحاكم والمدارس العليا. أُنشئت شبكة جديدة من الطرق والموانئ، ليس لخدمة المغاربة، بل لربط الموارد بمراكز التصدير. استُصلِحت الأراضي الزراعية الخصبة في الغرب والسهول الأطلسية، وتمّ تفويتها للمستوطنين الفرنسيين، بينما دُفعت القبائل المحلية إلى الأراضي الهامشية.
حتى القوانين تغيّرت. استوردت فرنسا إلى المغرب مجموعة من القوانين المستنسخة عن النموذج الجمهوري الفرنسي، لكنها فرضتها على شعب لم يُستشر في أمرها. تم سنّ قوانين للأراضي والملكية والعمل تخدم المستوطنين، وتقصي الفلاح المغربي من الحماية القانونية، بل وتجرّمه أحيانًا إن احتج أو طالب بحقوقه.
🏫 مدرسة “الحماية”: تربية النخبة الموالية
واحدة من أخطر أدوات “الحماية” كانت المدرسة. أنشأت فرنسا نظامًا تعليميًا مزدوجًا:
- مدارس فرنسية راقية لأبناء النخبة الموالية، تُدرّس باللغة الفرنسية، وتُجهّز الأطر الإدارية المستقبلية للمخزن الاستعماري.
- ومدارس تقليدية دينية محدودة لأبناء عامة الشعب، تهدف فقط لتعليم “الضروري من الدين”، مع تقييد المحتوى الفكري واللغوي.
بهذا، خلقت فرنسا طبقة نخبوية تتحدث الفرنسية وتُفكر بمنطق الجمهورية الفرنسية، وتدريجيًا بدأت تظهر في المدن الكبرى فئات من المغاربة المندمجين في المشروع الكولونيالي، إما طوعًا أو بفعل الضرورة.
🇫🇷 فرنسا: الراعي والمحتل في آن
بحنكة سياسية، روّجت فرنسا لنفسها كـ”قوة إصلاح”، وظهرت مشاريعها العمرانية والتعليمية والصحية وكأنها “مِنح” موجهة للشعب المغربي. تم بناء المستشفيات، تمديد الكهرباء، حفر الآبار، تحسين الموانئ. لكنها كلها كانت موجهة أولًا لخدمة المستعمرين الفرنسيين والمستوطنين، قبل أن تصل إلى المغاربة بشكل محدود وانتقائي.
وإن لم تفلح في إقناع المغاربة بأن “الحماية” لصالحهم، فإنها نجحت في خلق واقع جديد يصعب الفكاك منه بسهولة، واقع جعل من الاحتلال واقعًا يوميًا غير مرئي، متسللًا إلى تفاصيل الحياة: في المدرسة، في الديوان، في المحطة، في دفتر الحالة المدنية، في دفاتر القانون.
🧱 استعمار بدون اسم… لكنه أعمق من كل استعمار
ما جرى في المغرب بعد 1912 لم يكن مجرد غزو عسكري، بل كان عملية هندسة سياسية وثقافية واقتصادية شاملة. استعمار بلا لافتة، لكنه أعمق من استعمار الجزائر. لقد تم احتلال البنية الذهنية للمجتمع، لا فقط مجاله الجغرافي.
ومع أن فرنسا ادّعت أنها تحمي المغرب “باسم القانون”، إلا أن الحقيقة التي أدركها المغاربة سريعًا، أن القانون نفسه صار سلاحًا ضدهم. وأصبحت كلمة “الحماية” مرادفًا للخيانة والهيمنة والتقسيم.
🎭 صدمة النخب… وبداية التشكل الوطني
في الزوايا المعتمة من المدن العتيقة، في دواوين العلماء، وفي مكاتب المحامين ومدارس القرويين، سرت قشعريرة جماعية لحظة إعلان معاهدة الحماية. لم يكن وقع الخبر على النخب المغربية كوقعه على عامة الناس. فبينما تساءل البسطاء عن “من يحكمنا الآن؟”، كانت النخبة تدرك عمق التحول الزلزالي الذي يعنيه انتقال السلطة إلى يد قوة استعمارية أجنبية، تحت ستار “الحماية”.
لقد كان المثقفون، القضاة، العلماء، التجار الكبار، بل وحتى بعض الموظفين المخزنيين، يعلمون جيدًا أن ما حدث في 30 مارس 1912 لم يكن توقيعًا على وثيقة بروتوكولية، بل على نهاية المغرب ككيان مستقل. ولأول مرة، بدأوا يستخدمون مفردات مثل: “النكبة”، “الانهيار”، “بيع البلاد”، “فقدان السيادة”… وهي مفردات لم تكن مألوفة من قبل في الأدبيات المغربية.
🕌 فاس… قلب مثقف ينبض بالغضب
كانت فاس مركز هذا الوعي الغاضب. لم تكن مجرد مدينة تقليدية، بل عاصمة فكرية وعلمية وثقافية، حيث تقبع جامعة القرويين، وتُنسج العلاقات بين العلماء والتجار والمخزن. ومع وصول أنباء المعاهدة إلى أروقة القرويين، تعالت أصوات الاستنكار. بعض الفقهاء رفضوا الدعاء للسلطان في خطبة الجمعة، وآخرون امتنعوا عن حضور الجلسات الرسمية للمخزن.
حتى النخبة التجارية الفاسية، التي ارتبطت تاريخيًا بالسلطة وبالمصالح الاقتصادية، شعرت بالخذلان. ففرنسا وعدت بـ”حماية المصالح”، لكنها في الواقع فرضت ضرائب جديدة، وأدخلت شركات فرنسية عملاقة أجهزت على السوق المحلية، وسنّت قوانين جمركية تمييزية.
📜 رسائل احتجاج… لكنها لم تجد من يصغي
منذ الأشهر الأولى بعد التوقيع، بدأ العلماء والوجهاء الحضريون يكتبون الرسائل، يوقعون العرائض، وينشرون البيانات. أشهرها “عريضة العلماء” التي وجهوها إلى السلطان مولاي يوسف – الذي تولى العرش بعد تنازل عبد الحفيظ – يطالبونه بإلغاء المعاهدة، أو على الأقل التراجع عن تنفيذ بنودها.
لكن السلطان الجديد كان أضعف من أن يواجه فرنسا، بل لم يكن يُستشار أصلاً في الأمور الكبرى. أُحبطت النخبة، وتوقفت بعض الأصوات، لكن أخرى تحوّلت إلى خيار جديد: إعادة التفكير في مشروع الدولة والمجتمع.
🧠 من الغضب إلى التفكير في البديل
في لحظة السقوط، بدأت تتشكل بذور الوعي الوطني الحديث. أدركت النخب أن الدولة التقليدية، التي تأسست على البيعة والظهير والخضوع، لم تعد كافية. لا بد من مشروع بديل: دولة قانون، دستور، تمثيل سياسي، تعليم عصري، إصلاح ديني حقيقي.
وهكذا، بدأت نواة الحركة الوطنية تتشكل ببطء، في حلقات فكرية، وصالونات أدبية، وصحف سرية، وكتب تُهرّب من مصر ولبنان، خاصة كتب الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا. كما تأثر الكثير من الشباب المغاربة ممن درسوا في المعاهد الفرنسية أو سافروا إلى الشرق بأفكار النهضة العربية، وبدؤوا يُسقطونها على الوضع المغربي.
📰 الصحافة الوطنية… أولى الأصوات المعارضة
مع دخول عشرينيات القرن، بدأت تظهر صحف مغربية ناطقة بالعربية والفرنسية، تهاجم الاحتلال بطريقة ذكية. جريدة “السعادة” مثلًا، كانت تمارس نقدًا مبطنًا لسياسات فرنسا، كما ظهرت مجلات دينية وتربوية تستنهض الهمم، وتدعو للتمسك بالهوية الإسلامية واللغة العربية.
كما بدأت تظهر كتابات تُعيد قراءة التاريخ المغربي، وتُظهر أن المغرب لم يكن أبدًا بحاجة إلى حماية أجنبية، بل إلى إصلاح داخلي. وكانت هذه الكتابات نواة لرؤية وطنية جديدة، ترى أن المستقبل لا يُصنع في بلاط السلطان، بل في المدرسة، والمسجد، والسوق، والصحيفة.
🧩 نحو تبلور “نخب جديدة”
مع مرور الوقت، بدأ يتكون جيل جديد من الشباب المغربي المتعلم، يتحدث الفرنسية لكنّه يرفض الاستعمار، ويؤمن بالتحرر، ويقرأ عن الثورة الفرنسية والاستقلال الأمريكي والنهضة اليابانية. هؤلاء سيقودون لاحقًا، في الثلاثينيات والأربعينيات، الحركات الوطنية السياسية، وسيتحولون من مجرد “مثقفين غاضبين” إلى قادة حقيقيين لحركة التحرر المغربي.
لقد كانت معاهدة الحماية صدمة، لكنها فجّرت وعيًا جديدًا. ومن رحم الهزيمة، بدأ المغاربة يعيدون تشكيل ذواتهم، ويُعيدون تعريف علاقتهم بالسلطة، وبالهوية، وبالوطن.
📢 صوت الجبال والصحراء… من المقاومة المسلحة إلى حرب العصابات
بينما كان المخزن في فاس ينهار، والنخب المدينية تائهة بين الصدمة والتفكير، كانت الجبال والبوادي المغربية تتحدث بلغة أخرى: لغة البارود. لم تُصدّق القبائل ما يُقال عن “الحماية”، ولم تقرأ نص المعاهدة، لكنها شعرت بالخطر في لحمها ودمها، حين رأت الجنود الفرنسيين يقتحمون الأسواق، والمكاتب الإدارية تُفتح بأوامر أجنبية، و”القياد الجدد” يأتون يحملون وثائق عليها أختام باريس.
المقاومة المسلحة لم تنتظر تنظيما ولا بيانًا سياسيًا. فقد كانت رد فعل غريزيًا على الغزو الملموس، على الأرض التي تُؤخذ، وعلى الشرف القبلي الذي يُهان. وإذا كانت المدن تُحتل بالقلم، فإن القرى الجبلية قررت أن تُدافع بالحجر والنار.
⛰️ الأطلس الكبير والمتوسط… معاقل الغضب
في أعالي جبال الأطلس الكبير، بدأ الزعيم المقاوم أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين يعبّئ القبائل ضد “النصارى الكفار”، كما كان يسميهم. جمع آلاف المجاهدين، وزحف نحو مراكش في محاولة لردّ الغزو الفرنسي. وبالفعل، دخل المدينة سنة 1912، ونُصّب سلطانًا رمزيًا من طرف أنصاره، في واحدة من أقوى لحظات التحدي الرمزي للاستعمار الفرنسي.
لكن فرنسا ردّت بسرعة. أرسلت قوة عسكرية بقيادة الجنرال مانجان، فدارت معركة سيدي بوعثمان في سبتمبر 1912، والتي انتهت بهزيمة المجاهدين، وتراجُع الهيبة إلى الجنوب الصحراوي، حيث واصل الكفاح بأساليب جديدة حتى وفاته سنة 1919.
في الأطلس المتوسط، برز اسم الزعيم موحى أوحمو الزياني، الذي سيقود واحدة من أشرس المواجهات مع الفرنسيين: معركة الهري سنة 1914. على أرض وعرة، وفي طقس قاسٍ، شن المجاهدون هجومًا خاطفًا على معسكر فرنسي وقتلوا أكثر من 600 جندي في ساعات. كانت هذه أول هزيمة ساحقة يتعرض لها الجيش الفرنسي في المغرب، وأحدثت زلزالًا في القيادة العسكرية بالرباط وباريس.
استمرت مقاومة الزيانيين لسنوات بعد ذلك، عبر تكتيكات حرب العصابات والكمائن في الجبال، ونجحت في تأجيل تقدم القوات الفرنسية نحو العمق المغربي. لم يكن النصر هدفهم الوحيد، بل الصمود والشرف والحرية.
🏜️ الجنوب الصحراوي… آخر من سلّم وآخر من خضع
في الجنوب الشرقي، خاصة سوس ودرعة وتافيلالت، تواصلت المقاومة بقيادة شيوخ الزوايا ورجال الدين، أمثال الشيخ ماء العينين وأبنائه، والقبائل المحاربة مثل آيت عطا وآيت باعمران.
هؤلاء لم تكن لهم علاقة بالسياسة الرسمية في فاس أو الرباط، لكنهم فهموا المعركة على أنها صراع وجود: إما أن تبقى الأرض لنا، أو تُؤخذ إلى الأبد. لذلك، قاتلوا بشراسة، ورفضوا أي نوع من التفاوض مع الفرنسيين، وأدخلوا قوات الاحتلال في معارك استنزاف طويلة، امتدت حتى الثلاثينيات.
ولم يكن الجنوب المغربي وحده في المواجهة، فقد امتد خط النار إلى مناطق تافيلالت، فكيك، وورزازات، حيث دخلت القوات الفرنسية في مواجهة مباشرة مع المقاومة المسلحة، وسط تضاريس معقدة، وأعراف قبلية لا تُخترق بسهولة.
🌊 الريف… المقاومة التي أرعبت الإمبراطوريات
لكن أقوى مقاومة على الإطلاق، وأكثرها تنظيمًا وتأثيرًا، ستأتي من شمال البلاد، من أرض الريف. صحيح أن الاحتلال الفرنسي ركّز على الوسط والجنوب، لكن الشمال كان يقبع تحت الاحتلال الإسباني، الذي لم يكن أقل قسوة، بل ربما كان أكثر همجية في تعامله مع السكان.
من هناك، سيظهر اسم محمد بن عبد الكريم الخطابي، الفقيه الذي تحوّل إلى زعيم ثوري عالمي. نجح في توحيد قبائل الريف، وهزم القوات الإسبانية في معارك متتالية، أبرزها معركة أنوال سنة 1921، التي انتهت بمجزرة عسكرية ضد الجيش الإسباني، قُتل فيها أكثر من 13 ألف جندي، بينهم ضباط كبار.
أعلن الخطابي جمهورية الريف سنة 1923، لتكون أول تجربة استقلالية في المغرب الحديث. لم تتحمل فرنسا هذا التحدي، فانضمت إلى إسبانيا، وشنّت حربًا ضروسًا على الريف، استخدمت فيها الطائرات والقنابل والغازات السامة، حتى اضطر الخطابي للاستسلام في 1926، بعد مقاومة أسطورية استمرت خمس سنوات.
🔥 تكتيكات المقاومة… من الكر إلى الاستنزاف
ما ميّز هذه المقاومات ليس فقط شجاعتها، بل ذكاؤها العسكري. لم تكن مقاومة تقليدية، بل استخدمت:
- الكمائن الجبلية لشل حركة العدو.
- حرب الاستنزاف لإضعاف الموارد.
- التحالفات القبلية العابرة للحدود المخزنية.
- التنقل المستمر وتجنب المواجهات المباشرة الطويلة.
كما استخدم المقاومون البيئة الجغرافية كسلاح: الممرات الضيقة، الوديان، الكهوف، والجبال. ونجحوا بذلك في تعطيل آلة الاحتلال لسنوات طويلة.
🧬 المقاومة… ذاكرة حية وهوية مستمرة
هذه المقاومات، رغم كونها محلية وغير موحدة، شكّلت في مجموعها الضمير القومي المغربي الجديد. لم يعد المغاربة ينظرون إلى فرنسا كقوة عظمى حضارية، بل كغاصب، ولا إلى السلطان كرمز للشرعية، بل كواجهة ضعيفة. لقد علّمت الجبال الحواضر معنى الكرامة، وأثبتت أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.
🧭 المقيم العام ليوطي… الاستعمار الناعم بوجه عسكري
عندما وقّع السلطان عبد الحفيظ معاهدة الحماية، لم تكن فرنسا قد قررت بعد من سيحكم المغرب فعليًا. لكنها لم تتأخر. ففي أبريل 1912، أي بعد أسبوعين فقط من التوقيع، عيّنت الجنرال لوي هوبير ليوطي (Louis Hubert Lyautey) أول مقيم عام فرنسي في المغرب، ليتحول خلال سنوات قليلة إلى المهندس الأول للمغرب الاستعماري، بل إلى “صانع دولة جديدة على أنقاض دولة قديمة”.
ليوطي لم يكن مجرد جنرال، بل كان نموذجًا فريدًا من ضباط الاستعمار الذين جمعوا بين الفكر العسكري والفلسفة السياسية. سبق له أن خدم في الجزائر ومدغشقر والهند الصينية، وقرأ كتب ميكيافيلي، وتأثر بأفكار “الاستعمار النافع” الذي يمزج بين القوة والإصلاح.
📐 الرؤية الليوطية: “نُغير كل شيء… دون أن يبدو أننا غيرنا شيئًا”
منذ وصوله إلى الرباط، أعلن ليوطي سياسته الشهيرة:
“الاحترام الظاهري للتقاليد، مع الهيمنة الحقيقية على القرار.”
كان يؤمن أن نجاح الاستعمار لا يأتي من تدمير البنيات المحلية فجأة، بل من اختراقها، ثم إعادة توجيهها تدريجيًا. ولذلك حافظ على بعض رموز السيادة التقليدية: ترك السلطان في مكانه، حافظ على الظهائر، أبقى القواد المحليين، وحتى العلماء والفقهاء لم يتم استبعادهم مباشرة.
لكنه في المقابل، أنشأ طبقة إدارية موازية، تتحكم فعليًا في كل شيء، من الرباط إلى سطات، ومن فاس إلى أكادير. كانت الإقامة العامة هي مركز السلطة الحقيقي، تصدر منها الأوامر، وتُصاغ فيها القوانين، ويُخطط فيها لمستقبل المغرب.
🏗️ مشروع ليوطي: بناء المغرب الفرنسي
خلال عشر سنوات فقط، أحدث ليوطي ثورة هادئة في البنية التحتية للمغرب. لم يكن همه الوحيد فرض السيطرة، بل إعادة تشكيل البلد وفق النموذج الفرنسي، لتدوم الحماية لعقود طويلة. من أبرز إنجازاته:
- نقل العاصمة من فاس إلى الرباط، واختياره موقع الإقامة العامة المطل على المحيط، كإشارة رمزية للانفتاح على الغرب، والانقطاع عن الماضي.
- بناء شبكة طرق وسكك حديدية تربط المناطق الغنية (الفلاحية والمعدنية) بالموانئ الرئيسية (الدار البيضاء، طنجة، الجديدة).
- إطلاق مشاريع عمرانية حضرية حديثة: أحياء أوروبية داخل المدن، قنوات صرف صحي، تخطيط عمراني شبكي، إدارات بنمط كلاسيكي فرنسي.
- إصلاح التعليم لصالح النخبة المختارة: أنشأ مدارس فرنسية خاصة للطبقات العليا، و”مدارس إسلامية حديثة” تخضع للمراقبة، لتكوين أطر موالية.
🧠 السيطرة الناعمة… باسم “الإصلاح”
ليوطي لم يكن يحكم بالسلاح فقط، بل بمنطق الإقناع والاستيعاب التدريجي. كان يزور القبائل بلباس تقليدي، ويحضر المواسم، ويتحدث باحترام عن الإسلام، ويدعم الزوايا الصوفية المتحالفة مع النظام، ويوزع الامتيازات المالية على الشيوخ الموالين.
كما استعمل الثقافة كأداة استعمارية. دعم البعثات الأركيولوجية، شجع دراسة التاريخ المغربي من منظور فرنسي، أنشأ متحف فاس، وساهم في إعادة ترميم المعمار الأندلسي، بهدف خلق “تراث مغربي فاخر” تحت وصاية باريس.
لكن خلف هذا الوجه الحضاري، كانت آلة الاحتلال لا تتوقف: قمع المقاومات، مصادرة الأراضي، تشريد القبائل، فرض الضرائب، والتمييز الصارخ في القضاء والعمل والتعليم بين الفرنسيين والمغاربة.
🎭 ليوطي… بين الإعجاب واللعنة
الغريب أن شخصية ليوطي لا تزال محل جدل حتى اليوم. بعض المؤرخين الفرنسيين يصفونه بـ”باني المغرب الحديث”، ويقارنونه بـ”محمد علي في مصر”. بينما يعتبره أغلب الوطنيين المغاربة العقل المدبر للهيمنة الناعمة التي جعلت الاحتلال أكثر عمقًا وأطول أمدًا.
ليوطي لم يرحل من المغرب إلا سنة 1925، بعد أن فرض نظامًا إداريًا واقتصاديًا وعسكريًا متينًا، يستمر تأثيره حتى بعد الاستقلال. بل إن كثيرًا من الإدارات، والمصطلحات، والخرائط، والقوانين التي وضعها، لا تزال تُستخدم حتى اليوم، وكأننا لا زلنا نعيش في ظلال مشروعه.
🔚 نهاية مرحلة… وبداية معركة جديدة
مع رحيل ليوطي، دخل المغرب مرحلة جديدة من الصراع بين الهيمنة الفرنسية المتزايدة، وبداية تبلور حركات وطنية منظمة تسعى إلى كسر هذه البنية العميقة التي أرسى دعائمها هذا الرجل. لكنه ظل، حتى بعد رحيله، رمزًا للاستعمار الذي لبس جبة “الناصح”، وتسلل بهدوء إلى مفاصل الدولة.
🎙️ أصوات من الذاكرة: شهادات وكتابات من قلب الحدث
في لحظات الانكسار الكبرى، حين لا تصدح البنادق ولا يُكتب التاريخ الرسمي بعد، تبقى الأصوات الفردية والشهادات المدوّنة هي النافذة التي نطلّ منها على حقيقة ما جرى. فمعاهدة الحماية، رغم أنها وُقّعت خلف الأبواب المغلقة بين السلطان عبد الحفيظ ومندوب فرنسا، لم تمرّ في صمت. بل خلّفت في النفوس جراحًا موثّقة، ستتحول لاحقًا إلى وثائق حيّة في مذكرات، وخطب، ومقالات، ونصوص سردية، كتبت من مواقع مختلفة: من القصر، من الزاوية، من الجبل، ومن زنزانة المعتقل الاستعماري.
🖋️ عبد الله العروي: تفكيك اللغة وشرعنة الاستعمار
في كتابه المرجعي “الأيديولوجيا العربية المعاصرة”، يعود المفكر والمؤرخ المغربي عبد الله العروي إلى لحظة توقيع معاهدة الحماية، لا بوصفها فعلًا سياسيًا فقط، بل كمؤشر لغوي ثقافي أيضًا. يرى أن الاستعمار لم يفرض نفسه فقط بالقوة، بل عبر لغة قانونية ناعمة جعلت الاحتلال يبدو وكأنه شراكة إصلاحية.
يكتب العروي:
“لم تكن معاهدة الحماية سوى تتويج لتغلغل بدأ منذ عقود، لكنها أسست لشرعية زائفة ظلّت فرنسا تلوّح بها، وتُقنع بها العالم والمخزن وحتى بعض فئات الشعب.”
لقد فضح العروي كيف أن النصوص التي تدّعي الإصلاح تخفي مشاريع إخضاع، وأن فهم بنود المعاهدة يتطلب تحليلًا تأويليًا عميقًا، لا مجرد قراءة سطحية.
📖 محمد المختار السوسي: تأريخ الألم من داخل الوجدان المغربي
أما محمد المختار السوسي، العالِم والمؤرخ والمربي، فكان يكتب من موقع الرجل الذي شاهد انهيار الدولة وهيبتها، وعاين كيف بدأ الاستعمار يعيد صياغة البلاد والعباد. في مؤلفاته، خاصة “المعسول” و”رجالات العلم”، لا يتحدث فقط عن فواجع الاحتلال، بل عن التمزق النفسي الذي عاشه المغاربة وهم يرون مؤسساتهم تُفرّغ من الداخل.
في أحد مقاطع شهادته المؤلمة، كتب:
“رأينا الكرامة تُسلَب، والمغرب يُدار بلغة لا نفهمها، والمخزن يتحول إلى ظلّ، والعالم يُقرّب إن رضي، ويُبعد إن عبس.”
المختار السوسي لم يكن ثوريًا مسلحًا، لكنه كان صوتًا أخلاقيًا حادًا، رأى أن فقدان الاستقلال لا يبدأ من المعاهدة، بل من لحظة قبول الوصاية باسم الحداثة أو المصلحة.
🗣️ محمد بن عبد الكريم الخطابي: فقيه يتحول إلى زعيم
في خطاباته اللاحقة بعد نفيه إلى جزيرة رينيون، ثم بعد انتقاله إلى القاهرة، كان محمد بن عبد الكريم الخطابي يهاجم معاهدة الحماية بوصفها خيانة لا تغتفر. قال في إحدى كلماته الشهيرة:
“لم تكن الحماية سوى خدعة… لقد جاؤوا ليأخذوا كل شيء باسم القانون، فهل يُستأمن من يمدّ لك يده بالمعاهدة وفي الأخرى يحمل السلاح؟”
كان الخطابي يرى أن الاستعمار الأخطر هو الذي يُصاغ بلغة “الإصلاح” و”التنمية”، وأن المعاهدة كانت في جوهرها إعلان حرب على كرامة الشعب، لا اتفاقًا سياسيًا بين دولتين.
🎼 الأغنية الشعبية والملحون: التاريخ من أفواه الناس
لم تكن الكتابات النخبوية وحدها هي التي وثقت المأساة، بل حتى الأغنية الشعبية، وشعر الملحون، والأمثال، كلها التقطت لحظة الانكسار. انتشرت بين الناس أبيات تقول:
“السلطان باعنا للفرانصي… وبالظهير سلمنا داري”
“كان المخزن وجها، وولى ظلا… فرنسا حكمت بالسيف والعاري”
هكذا عبّر الناس بلغتهم عن الخيانة المزدوجة: من الداخل (المخزن)، ومن الخارج (الاحتلال). لم تكن لديهم صحف ولا كتب، لكنهم سجّلوا الوجع في الأهازيج والمواويل، لتصل إلينا حاملة صدق اللحظة.
📚 شهادات من الإداريين المخزنيين: بين التواطؤ والندم
بعض موظفي المخزن السابقين، الذين خدموا في فاس أو الرباط خلال سنوات التوقيع، كتبوا مذكرات بعد الاستقلال. ومنهم من اعترف بمرارة:
“كنا نرى الفرنسيين يخططون أمامنا، وكنّا صامتين. بعضنا خاف، وبعضنا طمع، لكننا جميعًا كنا نعلم أن المغرب قد انتهى كدولة حرة.”
هذه الاعترافات، وإن تأخرت، فهي تكشف أن حتى من عملوا في إدارة الحماية، كانوا يدركون الشرخ العميق الذي وقع في روح البلاد، وأن سكوتهم لم يكن غفلة بل خيارًا مؤلمًا.
🧠 شهادات صامتة… في المعمار والعمران
بل إن الحجارة نفسها تتكلم. المعمار المغربي الذي تغيّر فجأة، المدن التي توسعت على النمط الفرنسي، المباني الإدارية الجديدة، حتى خطوط القطار… كلها كانت شهادات مادية صامتة على أن شيئًا جللًا قد حدث. كل شيء بات يُبنى وفق رؤية “الإقامة العامة”، بينما المعالم القديمة إما هُجرت أو تم “ترميمها” بروح غريبة.
في المجمل، فإن الأصوات التي صدرت عقب معاهدة الحماية، سواء كانت من مثقف في الرباط، أو من شيخ في سوس، أو من شاعر في فاس، أو من مقاوم في الريف، جميعها تشكل مرآة صافية لحدث مزّق الوجدان المغربي. لم يكن التوقيع مجرد لحظة سياسية، بل زلزالًا في العمق الروحي والرمزي للأمة.
🧱 آثار ممتدة… هل انتهت الحماية فعلاً سنة 1956؟
حين أعلن السلطان محمد الخامس، في خطاب تاريخي يوم 2 مارس 1956، استقلال المغرب و”نهاية الحماية”، عمّت الفرحة ربوع البلاد، وساد الاعتقاد بأن زمن الهيمنة قد ولّى إلى غير رجعة. لكن مع مرور الوقت، بدأت الأسئلة تتسلل من خلف الخطاب الرسمي، ومن قلب التجربة اليومية: هل خرجت فرنسا فعلاً من المغرب؟ أم أنها بقيت بأساليب أخرى، بأدوات أخرى، ووجوه مغربية هذه المرة؟
📜 الاستقلال… سياسي لا بنيوي
الوثائق الرسمية التي وُقّعت في 1956 أقرّت بنهاية معاهدة الحماية، وعودة المغرب إلى وضعه كدولة ذات سيادة. لكن الاستقلال لم يكن سوى فك ارتباط شكلي مع الإدارة الفرنسية، دون تفكيك منظومتها التي بُنيت خلال 44 سنة من السيطرة.
- الإدارة التي تركها ليوطي ظلت تعمل بنفس النُظم: من الوثائق الإدارية، إلى توزيع الاختصاصات، إلى المركزية المفرطة.
- التعليم ظل مزدوجًا، وظلت الفرنسية هي لغة الدولة الحقيقية في الاقتصاد، والقانون، والتعليم العالي.
- النظام القضائي استمر في استنساخ القوانين الفرنسية، ولم يظهر تشريع مغربي متكامل إلا بعد سنوات طويلة.
- حتى العملة، بقيت في بداية الاستقلال مرتبطة بـ”الفرنك الفرنسي”، ومرت سنوات قبل أن يستقل الدرهم فعليًا.
🏫 النخبة الجديدة… فرنكفونية الهوى
واحدة من أخطر نتائج “الاستعمار غير المرئي” هي تكوين طبقة من النخب المتفرنسة، التي درست في المعاهد الفرنسية، وتمرّنت على الإدارة على يد المستعمر، وتقلدت مناصب عليا في الدولة بعد الاستقلال. لم تكن هذه النخب “خائنة”، لكنها كانت منتوجًا طبيعيًا لمنظومة الحماية، فتبنّت خطابًا إداريًا وسياسيًا قريبًا من فرنسا، وواصلت استخدام أدواتها.
وهكذا، تحوّل الاستقلال عند بعض المفكرين إلى “استمرار الاستعمار بأدوات محلية”، وهو ما عبّر عنه المفكر فرانز فانون بقوله:
“البرجوازية المحلية بعد الاستقلال لا تقود التحرر، بل تُدير المصالح نيابة عن المستعمر السابق.”
📚 التعليم واللغة… ما زال سؤالًا مفتوحًا
رغم محاولات التعريب منذ السبعينيات، لا تزال اللغة الفرنسية مهيمنة على مفاصل الدولة: في الطب، الهندسة، الاقتصاد، القضاء، والبنوك. ورغم جهود إدماج العربية والأمازيغية، إلا أن الحقيقة المُعاشة في الإدارات والجامعات تُظهر أن “لغة الحماية” ما تزال لغة الامتياز الطبقي.
هذا الواقع اللغوي يُبقي الباب مفتوحًا أمام جدل هوية لم يُحسم بعد: هل المغرب حر في لغته؟ أم أن اللغة الاستعمارية لا تزال تحكمنا؟
🤝 العلاقات الاقتصادية… تبعية مقنّعة
بعد الاستقلال، أُبرمت عشرات الاتفاقيات الاقتصادية مع فرنسا، تم بموجبها ضمان مصالح الشركات الفرنسية الكبرى في المغرب، خاصة في قطاعات مثل:
- الاتصالات
- البنوك
- المعادن والفوسفاط
- التعليم الخاص والنقل والطاقة
بل إن بعض التقارير تشير إلى أن فرنسا لم تترك المغرب، بل أعادت تموضعها في شكل شركات متعددة الجنسيات، ومؤسسات تمويل، ومستشارين تقنيين، يعملون في الوزارات والمجالس العليا.
🧪 عقل الدولة… ما زال فرنسيًا في العمق
العديد من المفكرين، مثل طه عبد الرحمن والمهدي المنجرة، أشاروا إلى أن عقل الدولة المغربية ما بعد الاستقلال ظلّ خاضعًا لنموذج الحماية. في القوانين، في التخطيط، في إدارة الأزمات، في فهم العلاقة بين السلطة والمواطن… بقيت البصمة الليوطية حاضرة، بل مهيمنة.
وهنا يطرح السؤال الجوهري: هل انتهت الحماية حقًا؟ أم أننا فقط نقلنا الاستعمار من صورة خارجية إلى نمط داخلي مقبول؟
⚖️ من أجل استقلال حقيقي… معركة لم تنتهِ
إن معاهدة الحماية كانت جرحًا كبيرًا في ذاكرة المغرب، لكن التحرر منها لا يتم فقط بإلغائها قانونيًا. التحرر الحقيقي يكون حين:
- نستعيد لغتنا ونعيد الاعتبار لها في كل مجالات الدولة.
- نُفكّك البنية الإدارية الموروثة من المستعمر ونؤسس لعدالة إدارية شعبية.
- نبني تعليمًا متحررًا من التبعية المعرفية.
- نُعيد الاعتبار للقيم المغربية في التنظيم، والاقتصاد، والتسيير، بدل تكرار النماذج الغربية بحرفية جامدة.
🧭 هل نغلق الملف… أم نفتحه من جديد؟
صحيح أن معاهدة الحماية طُويت رسميًا منذ 1956، لكن الأسئلة التي فجّرتها لا تزال حية. من يحكمنا اليوم؟ بأي منطق تُدار الدولة؟ بأي لغة تُكتب قراراتنا؟ من يستفيد من ثروات البلاد؟ وهل نعيش استقلالًا حقيقيًا أم شكليًا؟
هذه الأسئلة، وإن كانت ثقيلة، هي جزء من معركة الوعي، التي بدأت منذ أن وقّع السلطان عبد الحفيظ تلك الورقة، والتي لم تنتهِ بعد.
✒️ الخاتمة: من ذاكرة الانكسار إلى إرادة الاستعادة
توقيع معاهدة الحماية لم يكن فقط لحظة سياسية، بل تجربة وجودية في ذاكرة الأمة المغربية. كان سقوطًا، نعم، لكنه أنجب مقاومات، وعيًا، سؤالًا، وتمرّدًا لم ينطفئ. واليوم، حين نتأمل في تلك اللحظة، فإننا لا نفعل ذلك للبكاء على الأطلال، بل لنستعيد وعينا التاريخي، ونفهم أن الاستقلال ليس حدثًا، بل مسارًا طويلًا يتطلب الجرأة على طرح السؤال، والصدق في مواجهة الجواب.