يوسف بن تاشفين… مؤسس الغرب الإسلامي وصوت الحكمة في زمن الطوائف

في البدء، لم يكن المغرب سوى رقعة واسعة من الرمال والجبال، تتقاطع فيها القبائل كما تتقاطع الرياح، وتتصادم فيها النيات والمطامع. لم تكن هناك دولة، ولا فكرة الدولة، بل فقط زعامات تتناوب على القرى كما تتناوب الغيوم على السماء دون أن تمطر. لكن رجلًا واحدًا قرر أن يرسم للمغرب خارطة جديدة، لا بالحبر، بل بالسيف والرؤية. رجل خرج من عباءة البدو لا ليعود إليها، بل ليرسم ملامح الغرب الإسلامي لعقود. كان اسمه يوسف، ولقبه التاريخ بالباني، لكنه في العمق، كان شيئًا أعمق من اللقب: كان الإرادة.

لم يكن يوسف بن تاشفين سليل قصور ولا موائد ممدودة. كان أمازيغيًّا من قبيلة لمطة، عاش على شظف العيش ومرارة التنقل، حيث الرجال لا يُقاسون بثرواتهم بل بقدرتهم على الصمود. لم يكن يعرف كثيرًا من الكتب، لكنه عرف الناس، وتلك كانت أولى علاماته. لم يحمل عصًا سحرية ولا ادّعى النبوة، لكنه كان يعرف من أين يبدأ، ومتى يصمت، ومتى يضرب.

حين جاءه النداء من الصحراء، لم يكن يدري أن أقداره ستُكتب على صفحات التاريخ، لا على الرمال. التحق بحركة إصلاحية بدت كأي دعوة، لكنها كانت تنطوي على أكثر من ذلك. عبد الله بن ياسين، الرجل الصارم الزاهد، لم يكن واعظًا فقط، بل كان مشروعًا في هيئة رجل. التقط يوسف بن تاشفين بفراسته، لا بعاطفته. لم يركض خلف الشعارات، بل اختبر ما وراءها. وكان ذكاؤه هادئًا، مثل نهر لا يُرى لكنه يروي جذورًا بعيدة.

كبر المشروع كما تكبر النار في الهشيم إذا لم تُراقب. وبدل أن يكون يوسف مجرد تابع في جماعة، صار ركيزة. لم يكن الصعود بالنسبة إليه مغامرة، بل مسارًا. ظل صامتًا في البداية، مراقبًا كظلّ لا يُشعر به أحد. وعندما جاءت لحظة القرار، لم يكن صوته مرتفعًا، لكنه كان حاسمًا. لم يثر على أحد، لكنه تقدّم الجميع، لأن الأرض تنادي من يعرف دربها، لا من يرفع صوته فوقها.

لم يبنِ دولة على جثث الخصوم، بل على فراغ الواقع. لم يكن هناك من يستحق أن يُقاتل، لأن كل الزعامات كانت هشّة، تخاف من ظلّها، وتستجدي الخارج أكثر مما تبني الداخل. وجد يوسف في ذلك الفضاء الهش فرصة لبناء شيء لا يشبه أحدًا. لا خلافتين تتنازعان شرقي الأندلس، ولا قبائل تتصارع على مرعى. بل شيء أكثر نُبلًا: دولة تملك حدودًا وهدفًا.

كانت مراكش، التي اختارها لتكون القلب، صحراء صامتة. لا شواهد فيها ولا سقوف. لكنه رآها مدينة قبل أن تُبنى. وهكذا يبدأ العظماء دومًا: لا يبنون ما يطلبه الناس، بل ما يراه خيالهم قبل أعينهم. شادها كما تُشاد القصائد، ببطء وثقة، وترك فيها عبقه، فصارت تليق باسمه وتليق بالرؤية التي كانت تنمو في صدره كجنين لا يريد أن يولد ناقصًا.

ثم جاءت اللحظة: الأندلس، التي لطالما فتنت المغاربة، لم تكن سوى صدى بعيد، حتى جاءت صرختها من ألم. الملوك الطوائف هناك أرسلوا في رقّ خطاباتهم، لكن جوهرها كان واضحًا: “أنقذونا”. كان يمكن ليوسف أن يغمض عينيه، أن يتحجج ببحر يفصل، أو بسياسة لا تتدخل. لكنه لم يفعل. لأنه لم يكن يُجيد الإنصات إلى السياسة، بل إلى الضمير. حمل سيفه لا ليفتح، بل ليرتق صدعًا أخلاقيًا قبل أن يكون جغرافيًا.

عبر البحر، لا كغازٍ، بل كمن يرى نفسه في المرآة. لم يكن يرى في الأندلس غنيمة، بل امتدادًا. وعندما نزل أرض الزلاقة، لم يكن يعرف أنها ستكون قصيدة دمه الأولى. المعركة لم تكن سهلة. كانت حاسمة. وفي اللحظة التي كادت تنكسر فيها العزائم، وقف يوسف كمن يقف على حافة التاريخ، إما أن يكتب سطرًا جديدًا أو يُمحى سطر قديم.

فاز. لكنه لم يغترّ. عاد كما ذهب: صامتًا، رابط الجأش، وكأن النصر لم يُغيّره. لم يعش على أمجاد يوم، بل واصل. الأندلس لم تكن تحتاج فقط إلى فارس، بل إلى من يُحسن الحكم، ويضبط الفوضى، ويوحّد القلوب المتناثرة. ففعل. وبقي يُدير الأمور هناك كما لو كان يعيش بين ظهرانيهم، لا في مراكش.

لكن الداخل المغربي لم يكن أسهل من الخارج. القبائل لا تستكين بسهولة. الخصوم كثر، والفتن كانت تجد طريقها دومًا. ومع ذلك، لم يلجأ إلى البطش، بل إلى الحيلة والتدبير. رجل لا يقتل إلا مضطرًا، ولا يقاتل إلا حين لا يبقى مجال للصلح. وكانت الدولة تنمو في ظله كما تنمو الشجرة تحت ظلّ سقاء.

لم يكن يوسف محبًّا للترف. عاش زاهدًا رغم سلطانه. لم يشيّد القصور ولا أقام الحفلات. كان وجهه يشبه صمته: عميقًا، مواربًا، يقرأ أكثر مما يُقال. لا يُضحك العبيد، ولا يُبهر الوزراء. بل يمشي بينهم كرجل من الناس، لكنه يحمل همّ الجميع فوق كتفيه. وكان يعرف، على غير عادة الملوك، متى ينحني.

ولمّا آن زمن الخلافة، لم يدّعها. لم يقل إنه أمير المؤمنين، رغم أنه كان يستحق اللقب أكثر من كثيرين. لكنه اكتفى بأن يكون ظلًّا عادلًا، لا نجمًا يطلب الأضواء. كان يؤمن بأن الحكم وسيلة، لا غاية. وأن الدولة لا تُقاس بعدد الرايات، بل بعدد الذين ينامون آمنين في ظلّها.

في سنواته الأخيرة، بدأ يُعدّ لما بعده. لم يُمسك الحكم كما يمسك طفل بلعبته. بل سلّمه تدريجيًّا، كما يسلم القائد الراية لجيل لم يولد من شهوة السلطة، بل من جدارة التاريخ. كان يعرف أن اسمه سيبقى، لا لأنه أمر الناس أن يتذكروه، بل لأنه لم يعش لذاته. عاش لفكرة، لحلم، لمكان أراد له أن يُحترم.

ومات كما عاش، بلا ضجيج. ودفن في مراكش التي أحبها، وترك خلفه لا كنوزًا، بل سردًا كاملاً لدولةٍ لم يكن فيها صدفة، ولا خرافة، بل عقلٌ كبير وقلب لا يرتجف أمام المسؤولية. وبقي اسمه في فم الزمن، يتردد كدرس في القيادة والتواضع والبناء.

في حضرة يوسف، لا تشعر أنك أمام سلطان، بل أمام معنى. معنى أن يكون الإنسان أكبر من لحظته، وأعمق من ظرفه. لا سيرة تقليدية تُروى، ولا حكاية بطولة فارغة، بل سطر نقيّ في دفتر أمة، كتبه رجل لم يكن يطلب شيئًا سوى أن يظلّ المغرب عاليًا، لا لينظر من تحته، بل ليصون ما فوقه.

أضف تعليق