لم يكن محمد الخامس مجرد ملك. لم يكن حاكمًا آخر على عرش امتلأ بالتيجان وتشققت تحت أقدامه الطرق. كان، في زمن النكبات الكبرى، ضمير أمة يحاول أن يُنقذ قلبها من العفن. لا بوصفه زعيمًا وطنيًّا، ولا بصفته سلطانا يلبس البذلة الرسمية وينحني أمام البروتوكول، بل كإنسان، أدرك أن السلطة امتحان للإنسانية، وأن المواقف لا تُوزن بثقل التاج، بل بخفة الضمير.
لم يُولد محمد الخامس في فراغ. كان وريثًا لعائلة حَكمت المغرب لكنها لم تنفصل عن شعبه. ترعرع في ظل الحسن الأول، ثم عبد العزيز، ثم يوسف. في تلك الدائرة الضيقة للقصور، تعلّم أن السلطان ليس هو من يملك، بل من يُطوّق بالصمت كل صخبٍ حوله كي يسمع أنين الأرض. وعندما وُضعت السلطة في يده، لم يكن فتى يبحث عن المجد، بل رجلًا يعرف أن العدل يبدأ من الداخل، من طريقة النظر في أعين الناس.
ولم يكن الزمن الذي تسلّم فيه الحكم زمنًا هيّنًا. كانت فرنسا تمسك بخيوط المغرب كما يُمسك المخرج بدمى مسرحه، تتحرك الأقاليم وفق نوايا غير معلنة، وتنقسم البلاد تحت طاولات اتفاقات لا يسمع عنها أحد. وكان اليهود المغاربة، وهم جزء حيّ من نسيج البلاد، يعيشون لحظة شكّ عميقة. لا لأنهم فقط أقلية، بل لأن قلقهم كان يأتي من خارج الحدود، من رمادٍ بدأ يحترق في أوروبا، من قوانين فيشي، من خطاب يتسلل تحت الجلد ويُفرّق بين الناس على أساس الاسم والدم والدين.
في هذه اللحظة القاتمة، لم يكن على محمد الخامس أن يفعل شيئًا. كان يمكنه الصمت. أن يواصل حفلات القصر، وأن يوقع القوانين كما يُوقّع موظف البريد على طرد لا يعنيه. لكنه لم يفعل. لأنه لم يكن فقط سلطانًا، بل ضميرًا. ولأنّه كان يرى في كل يهودي مغربي شقيقًا وطنيًّا، لا رقمًا في دفتر الإقامة العامة. لم يتعامل معهم كـ”أقلية”، بل كأبناء وطن واحد، تحيطهم الحماية نفسها، ويستحقون الكرامة نفسها.
لم تكن فرنسا في زمن فيشي دولة احتلال فحسب، بل كانت مصابة بمرض اسمه “الخوف من الآخر”. قوانينها الجديدة ضد اليهود كانت تنزل كالرصاص على رؤوس العائلات، تُقصيهم من الوظائف، وتمنع أبناءهم من الدراسة، وتسرق منهم الشعور بالانتماء. وكان في وسع السلطان أن يمرّر ذلك بصمت، أن يقول: “أنا لا شأن لي، إنها فرنسا التي تحكم”. لكنه اختار أن يقول لا، لا بشعارات، بل بموقف داخلي واضح لا لبس فيه.
رفض التوقيع على القوانين العنصرية. رفض التمييز في قلب المغرب، وقال مرارًا لمن كانوا يريدون “تحديد اليهود”: إنهم رعاياي. والجملة لم تكن بروتوكولًا، بل كانت إعلان موقف. عندما يقول الحاكم: “إنهم رعاياي”، لا يعني فقط أنه مسؤول عنهم إداريًا، بل إنه معنيّ بحياتهم، بسلامهم، بحقّهم في الأمان، حتى في ظلّ الخوف الكبير. لم يمنع صدور القوانين بالكامل، لأن الاحتلال كان يفرض منظومته، لكنّه حاصر أثرها، حاصر العنف الأخلاقي الذي كانت تحاول فرنسا زرعه في المغرب.
في مدارس المغرب، ظلّ الأطفال اليهود يتعلمون. في الأسواق، ظلّ التجار اليهود يبيعون. في الأزقة، لم تنفجر الكراهية. ليس لأن المغرب كان استثناءً، بل لأن محمد الخامس كان سدًّا أمام العاصفة. وكان صمته أبلغ من الصراخ، وموقفه أهدأ من الخطب، لكنه أكثر تأثيرًا من أي بيان.
والعجيب أن الرجل لم يطلب شكرًا. لم يكتب رسائل تفاخر. لم يطالب أحدًا بتخليد اسمه، لأن الضمير لا يطلب التصفيق. ثم جاءت اللحظة التي انقلب فيها المشهد كله. الاحتلال لم يعد يحتمل وجود سلطان له شعبية أكبر من قوّاده، فقررت فرنسا أن تنفيه. لم تفعل ذلك لأنه دعا إلى الاستقلال فقط، بل لأنها أدركت أن في قلبه سلطة أكبر من سلطتها: سلطة الأخلاق.
وفي المنفى، لم يتغير. لم تفسده الغربة، ولم تبكِه الوحدة. لأنه كان يحمل معه وطنًا كاملاً، لا يُرى لكنه يُشعر به. حتى من بعيد، كان حضوره أقوى من بنادق الإقامة العامة. وعندما عاد، عاد كما يغمر النور المكان دون ضوضاء. استقبلته الجموع، لكنها لم تر فيه بطلًا من رواية، بل أبًا عاد بعد ظُلم طويل. وكان أول ما فعله أن أعاد ترميم الثقة، بين المغاربة كلهم، مسلمين ويهودًا، بين الناس وبين الدولة، بين الحاضر والماضي.
ولم يتعامل مع اليهود بعد الاستقلال كفئة “أخرى”. بل استمرت العلاقات كما كانت، دون تصنع ولا نفاق. لم تكن هناك حملات دعائية، فقط حياة يومية، يسودها الاحترام. نعم، هاجر الكثير منهم لاحقًا، تحت تأثير عوامل عديدة، لكن من بقي ظلّ يرى في محمد الخامس رمزًا لكرامة أُريد لها أن تُدفن، فأنقذها.
ولم يكن الحاكم معصومًا. لكنه كان نقيّ النية، شديد الوعي، يعرف أن قوة المغرب لا تكون بإقصاء بعضه، بل بلمّ شمله. ولم يرَ في الأديان فواصل، بل تجليات لروح واحدة تبحث عن الأمان. لذلك، كان يتعامل مع يهود البلاد بروح أعمق من التسامح، بل بروح “المواطنة الأصلية”، حيث لا أحد يُمنّ على الآخر، ولا أحد في الهامش.
عاش في تلك السنوات الأخيرة كما يعيش من يعرف أنه أدى واجبه. لم يكن يتحدث كثيرًا، لأن الفعل سبق الكلمة. وعندما رحل، بكت عليه كل الطوائف، لأنهم رأوا فيه الإنسان، قبل السلطان. وحتى من غادر البلاد، ظلّ يحمل له ذكرى مختلفة، لأن المواقف النبيلة لا تموت بالحدود.
ولم يكن ما فعله محمد الخامس “استثناءً” في شخصيته، بل كان امتدادًا لما آمن به منذ بدايته. رجل عرف أن السلطة لا معنى لها إن لم تصُن الضعيف، وأن الملك الذي يقف مع الفقراء والمهمشين لا يُخسر، حتى لو خسر المعارك السياسية. والمثير أن التاريخ لم يحتج لعقود كي ينصفه، بل أنصفه في قلب زمنه، بين الناس الذين لمسوا الفرق، دون خطب ولا وثائق.
وحين تقرأ سيرة حياته اليوم، لا تقرأها كمجرّد ملك قاوم فرنسا، بل كإنسان واجه الوحش الأخلاقي الذي اجتاح العالم، ووقف بين شعبه وبين الجريمة، حتى ولو كان ذلك بالكلمة، أو حتى بالصمت.
ولذلك، فإن الحكاية ليست فقط عن يهود المغرب. إنها عن الإنسان حين يُمتحن، عن الزعامة حين تُمتحن، عن الإيمان العميق بأن العدل لا يُجزّأ. وأن الوطن ليس هويةً جامدة، بل تعايش حيّ، فيه المختلف لا يُقصى، بل يُحترم.
وهكذا، بقي محمد الخامس في الذاكرة لا كبطل ملحمي، بل كصوت هادئ في زمن ضجيج. رجل لم يُنقذ شعبًا من قنبلة، بل من تحلل داخلي، من خيانة صامتة كانت ستزرع في المغاربة شعورًا بالعار. وبهذا وحده، استحق مكانته.