من الصخيرات إلى تازمامارت: ولادة دولة أمنية في المغرب

بين 1971 و1972، هزّ المغرب حدثان كبيران لم يشهدهما من قبل: انقلاب عسكري دموي داخل قصر ملكي (الصخيرات)، تلاه بعد عام محاولة إسقاط طائرة الملك في السماء (انقلاب غشت 1972). لم تكن هذه فقط محاولات انقلابية فاشلة، بل لحظات مؤسسة لما سيُعرف لاحقًا في التاريخ السياسي المغربي بـ”دولة الأمن” أو الدولة الأمنية. لقد شكّلت هذه اللحظات تحوّلاً جذريًا في كيفية إدارة الحكم، وفي علاقة الدولة بالمجتمع، وأدخلت المغرب في عقود طويلة من الصمت والرقابة والخوف.

🧭 السياق العام: من حلم الاستقلال إلى كوابيس الداخل

بعد استقلال المغرب سنة 1956، ساد مناخ من الأمل بإقامة نظام ديمقراطي ملكي دستوري يكرّس الحريات ويكرم تضحيات الحركة الوطنية. غير أن الحلم لم يتحقق. سرعان ما ظهرت بوادر التسلط في إدارة الدولة، حيث تحولت المؤسسة الملكية إلى مركز القرار المطلق، وتم تهميش القوى السياسية والنقابية.

في الستينيات، اشتدت أزمة الثقة بين القصر والمعارضة اليسارية، خاصة بعد حل البرلمان سنة 1965، واندلاع أحداث مارس الدامية في الدار البيضاء. تم فرض حالة الاستثناء، وقمعت الحركات الطلابية والنقابية بقوة. وسط هذا التوتر، ظل الجيش بعيدًا عن الحياة السياسية، لكنه لم يكن بمنأى عن التذمر.

⚔️ انقلاب الصخيرات 1971: أول شرخ علني

في 10 يوليوز 1971، خلال احتفال بعيد ميلاد الحسن الثاني داخل قصر الصخيرات، اقتحم جنود من مدرسة أهرمومو القصر وقتلوا العشرات من الضباط والمدنيين. لم يكن الهجوم منسقًا بدقة، لكنه كشف عن وجود هوة بين النظام ومؤسساته الأمنية.

رغم فشل المحاولة، أظهرت الصخيرات هشاشة النظام السياسي، وكشفت عن مدى عمق الأزمة بين الحاكم والمحكوم، بل وداخل النخبة العسكرية نفسها. كان الرد الرسمي هو تعزيز الأجهزة الأمنية، ومعاقبة المشتبه فيهم بقبضة من حديد.

✈️ محاولة إسقاط الملك في السماء: انقلاب غشت 1972

بعد عام، في 16 غشت 1972، نجا الحسن الثاني مجددًا من محاولة انقلابية، هذه المرة جوية، نفذها طيارون مغاربة هاجموا طائرته أثناء عودته من برشلونة. وُجهت أصابع الاتهام مباشرة إلى الجنرال محمد أوفقير، أحد أقرب المقربين من الملك، والذي أعلن عن انتحاره لاحقًا في ظروف مشبوهة.

كانت تلك المحاولة تأكيدًا أن الأزمة لم تنتهِ، بل تعمّقت. وهو ما دفع النظام إلى التوجه نحو بناء منظومة أمنية مغلقة، ترى في أي معارضة خطرًا وجوديًا.

🧠 بناء الدولة الأمنية: من الولاء إلى الرقابة الشاملة

ما بعد 1972 لم يكن كالسابق. أصبح هاجس البقاء هو الموجه الأهم لسياسات الحكم:

  • الجيش تحت السيطرة: تمت إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية، وإبعاد الضباط ذوي الطموحات السياسية. تم استحداث وحدات خاصة تابعة للقصر مباشرة.
  • وزارة الداخلية كحكومة موازية: أعطيت لإدريس البصري سلطات غير محدودة، فجمع بين الأمن، الإعلام، الجماعات المحلية، والانتخابات.
  • جهاز المخابرات (DST) تحول إلى الدولة العميقة، يتجسس على المواطنين والوزراء والولاة والجنرالات.
  • قانون الطوارئ غير المعلن: وإن لم يتم التصريح به دستوريًا، فقد أصبح ساريًا ضمنيًا، يبرر الاعتقال التعسفي والتضييق على الحريات.

🔒 تازمامارت: سرداب الموت المنسي

في أعقاب انقلاب 1972، أُنشئ معتقل تازمامارت في أعماق الجنوب الشرقي للمملكة، في منطقة قاحلة لا تصلها الشمس إلا نادرًا. تم اقتياد عشرات الضباط، خاصة من المشاركين في المحاولة الجوية، إلى زنازين تحت الأرض.

بعضهم ظلّ هناك لأكثر من 18 عامًا دون محاكمة. لم يكن يُسمح لهم بالتكلم أو القراءة أو حتى رؤية الضوء. مات منهم من مات دون أن تعرف أسرهم بمكانهم. لم يكن المعتقل معترفًا به، ولا جزءًا من أي منظومة قانونية.

شهادات حية:

  • “كنا نعدّ عدد الديدان في وجباتنا أكثر مما نعدّ الأيام” — من شهادة طيار سابق.
  • “رأيت الموت ألف مرة. لكن لم أمت. وهذا هو العقاب الحقيقي” — أحمد المرزوقي.

📰 الإعلام والرقابة: هندسة الخوف

في موازاة السجون، تمت هندسة نظام إعلامي مغلق:

  • تم إغلاق كل الصحف المستقلة، أو إخضاعها لرقابة صارمة.
  • ظهرت جريدة “المغرب” كمنبر رسمي يمدح الحسن الثاني ويهاجم المعارضين.
  • أصبح التلفزيون العمومي وسيلة دعاية، يُظهر الملك كمنقذ، ويُشيطن المعارضة.

كما فرضت رقابة صارمة على كل ما يُكتب، ويُنشر، ويُذاع، وظهرت لائحة سوداء للمفكرين والمثقفين الممنوعين من النشر.

🧩 الحياة السياسية: من التعددية إلى الترويض

تم تقويض العمل السياسي عبر عدة وسائل:

  • التلاعب بنتائج الانتخابات.
  • إنشاء أحزاب إدارية موالية للقصر.
  • قمع الأحزاب اليسارية (مثل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية)، وسجن قياداتها.

حتى النقابات خضعت للاختراق، وتحولت إلى أدوات للضبط الاجتماعي.

🎭 أثر الدولة الأمنية على الثقافة والهوية الجماعية

صمت المثقفون، خوفًا أو قهرًا. لم يجرؤ أحد على نشر رواية تتحدث عن الصخيرات أو تازمامارت حتى التسعينيات. وحين بدأت الشهادات تتسرب، شكّل ذلك صدمة للوعي الجمعي.

ظهرت روايات ومذكرات وكتب سيرة كشفت حجم الرعب:

  • “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بنجلون.
  • “يوميات قلعة المنفى”.
  • شهادات الناجين من درب مولاي الشريف.

⚖️ هيئة الإنصاف والمصالحة: اعتراف دون محاسبة

مع بداية عهد محمد السادس، تم تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة (2004)، كمحاولة لطي صفحة الماضي. اعترفت الدولة ببعض الانتهاكات، وقدمت تعويضات مالية للضحايا.

لكن:

  • لم تُفتح أي محاكمة.
  • لم يتم نشر أرشيف تازمامارت.
  • لم يُحاسب أي مسؤول سياسي أو أمني.

بقيت الحقيقة ناقصة، والعدالة رمزية.

✅ خاتمة: هل تجاوز المغرب تلك الحقبة؟

لا يمكن فهم الحاضر دون استيعاب الماضي. فما عشناه بين 1971 و1999 ليس مجرد تجاوزات، بل هو نمط حكم كامل، ترك أثرًا في بنية السلطة والثقافة والسياسة.

إن الاعتراف ليس كافيًا. والمصالحة بدون مساءلة تظل ناقصة. ما يحتاجه المغرب هو ذاكرة جريئة، وعدالة حقيقية، ومسار إصلاح لا يخاف من مواجهة تاريخه.

أضف تعليق