غشت 1972: محاولة إسقاط الحسن الثاني من السماء

في يوم مشمس من أيام غشت 1972، وبينما كانت طائرة بوينغ 727 الملكية المغربية تحلق في أجواء الرباط، عائدة من مدينة برشلونة الإسبانية، تحوّلت السماء فوق العاصمة إلى مسرح لمحاولة انقلابية هي الثانية في أقل من سنة ضد الملك الحسن الثاني. هذه المرة، لم يكن الهجوم من الأرض كما حدث في الصخيرات، بل من الجوّ، نفذته طائرات حربية مغربية يقودها طيارون من النخبة.

🧭 السياق السياسي: جراح الصخيرات لم تندمل

بعد فشل انقلاب الصخيرات في يوليوز 1971، خرج الملك الحسن الثاني من الأزمة أقوى من ذي قبل، لكنه كان مدركًا أن الخطر لم يختفِ. لقد تزعزعت ثقة الدولة في الجيش، وتم إقصاء المئات من الضباط، وشنّت حملة تطهير واسعة داخل المؤسسات العسكرية.

في الظاهر، كان النظام يُعيد ترتيب بيته. أما في العمق، فقد كانت البلاد تعيش في ظلّ خوف متبادل: ملكٌ محاصر بالهواجس الأمنية، وجيشٌ يشعر بالاحتقار والإقصاء، خاصة الضباط الشباب الذين وجدوا أنفسهم متهمين جماعيًا بعد انقلاب الصخيرات.

من هنا، ظهرت فكرة أن التغيير لا يمكن أن يأتي من الداخل بهدوء. وكان بعض الطيارين يعتقدون أن الملك بات يشكل خطرًا على مستقبل البلاد، وأنه من الضروري إزاحته… بأي وسيلة.

✈️ 16 غشت 1972: حين استُهدِف الملك من السماء

في ذلك اليوم، كانت طائرة الحسن الثاني الملكية، وهي من نوع بوينغ 727، تقل الملك وعددًا من كبار مرافقيه عائدة من زيارة إلى مدينة برشلونة. وبمجرد دخولها الأجواء المغربية، اعترضتها ثلاث طائرات F-5 يقودها طيارون من سلاح الجو المغربي.

بدأت الطائرات الحربية في إطلاق النار على البوينغ، التي أصيبت بعدة طلقات، بعضها اخترق هيكلها الخارجي. أصيب بعض الركاب، وتوفي آخرون، فيما نجا الملك من الهجوم.

حسب الرواية الرسمية، أمسك الحسن الثاني جهاز اللاسلكي الموجود على متن الطائرة، وخاطب الطيارين المهاجمين قائلًا: “أنا الحسن الثاني، آمركم بالتوقف عن إطلاق النار فورًا”. توقف الهجوم فجأة، وتوجهت الطائرة نحو مطار الرباط سلا، حيث هبطت بشكل اضطراري تحت حماية عسكرية مكثفة.

🧠 من كان وراء المحاولة؟ دور الجنرال أوفقير

الاتهام سقط مباشرة على الجنرال محمد أوفقير، وزير الدفاع ووزير الداخلية آنذاك، وأحد أقوى رجال الدولة. كان أوفقير بمثابة الذراع الحديدي للنظام، والمسؤول عن قمع الحركات المعارضة، والمشرف على اعتقالات ما بعد الصخيرات.

لكن العلاقة بين أوفقير والملك بدأت تتدهور. الحسن الثاني أصبح يشكّ في طموحات الرجل الذي يملك مفاتيح الأمن والجيش. وتشير عدة مصادر إلى أن أوفقير كان يدرك أنه في طريقه إلى الإقصاء، وربما التصفية، فقرّر أن يسبق.

بعد فشل الانقلاب، أعلنت الدولة أن أوفقير انتحر بإطلاق النار على نفسه داخل مكتبه. لكن صور جثته التي سُرّبت لاحقًا أظهرت إصابات متعددة في أنحاء متفرقة من جسده، ما دفع كثيرين للاعتقاد بأنه أُعدم في القصر.

🧾 شهادات الطيارين: بين الخداع والتضليل

تمت محاكمة عدد من الطيارين المتورطين في المحاولة، بعضهم اعترف بأنه كان يظن أن الطائرة تحمل أعداءً للمغرب، أو أن هناك انقلابًا يتم ضد الملك، وأنهم كانوا ينفذون أوامر مباشرة.

أحد الطيارين، في شهادته خلال المحاكمة، قال: “قيل لنا إن العدو على متن تلك الطائرة… وأن الوطن يحتاج إلى تضحية”. وقد أدين العديد منهم بالإعدام أو بالسجن المؤبد، ونُقل عدد كبير إلى سجن تازمامارت، حيث فُقدوا لعقود.

🧩 تازمامارت: الوجه الآخر للمأساة

من نتائج محاولة انقلاب 1972، تأسيس معتقل تازمامارت السري، الذي سيصبح لاحقًا رمزًا للظلم والانتهاكات في المغرب. في هذا السجن، وُضع عدد من الطيارين والضباط في زنزانات انفرادية تحت الأرض، بدون محاكمات علنية أو حقوق إنسانية.

بعضهم قضى أكثر من 18 سنة في عزلة تامة. لم يكن يُسمح لهم بالكلام، ولا يُعرضون على أطباء، وتوفي منهم العشرات بسبب المرض أو الجوع. لم يعرف العالم عن تازمامارت إلا في التسعينيات، حين بدأت شهادات من نجاوا تُنشر تباعًا.

أشهر من كتب عن هذا الجحيم كان أحمد المرزوقي في كتابه “تازمامارت: الزنزانة رقم 10″، الذي كشف فيه حجم المعاناة والانهيار الجسدي والنفسي الذي تعرض له المعتقلون.

📰 التغطية الإعلامية ورد الفعل الشعبي

كالعادة، سيطر الإعلام الرسمي على الرواية. قُدّم الملك على أنه أنقذ البلاد من “خيانة كبرى”. ولم تُنشر تفاصيل دقيقة عن الجناة، ولا خلفياتهم، وتم تصوير أوفقير كخائن انتهى به المطاف إلى الانتحار.

في الأوساط الشعبية، اختلطت مشاعر الخوف بالإعجاب: كيف نجا الملك من محاولة ثانية؟ هل فعلاً تآمر عليه أقرب الناس إليه؟ هل أصبح النظام مغلقًا لدرجة أن لا أحد فيه يُؤتمن؟

لكن داخل فئات واسعة من المجتمع، خاصة في الجامعات والمجتمع الحقوقي، بدأ يتكوّن وعي نقدي جديد، يدرك أن ما يجري يتجاوز “أزمة ضباط”، إلى أزمة بنيوية في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

⚖️ تداعيات الانقلاب على مستقبل الحكم

أعادت محاولة غشت 1972 تشكيل النظام المغربي بشكل جذري:

  • تحولت الأجهزة الأمنية إلى محور السلطة.
  • أُضعف الجيش وأُعيد تنظيمه على أسس الولاء لا الكفاءة.
  • زاد الاعتماد على شخصيات مثل إدريس البصري لإدارة الدولة.
  • بدأت مرحلة ما سُمي لاحقًا بـ”سنوات الرصاص”، التي تميزت بالقمع الممنهج والاختفاء القسري.

كما عمّقت المحاولة عزلة الحسن الثاني عن شعبه، وأصبح يعيش في دائرة ضيقة من الثقة، محاطًا بأجهزة أمنية وعسكرية منفصلة عن المجتمع.

🧩 محاولة الانقلاب في الثقافة والذاكرة

لم تظهر المحاولة كثيرًا في الأدب أو السينما المغربية، ربما بسبب حساسية الموضوع، أو لأن من عايشوه ظلوا في الظل. لكن روايات السجون والمذكرات السياسية ظلت ترمز إليها كفاصل مرعب بين عهدين.

وقد تناولتها بعض الأعمال الروائية بشكل رمزي، مثل رواية “الضلع الأعوج” لربيعة ريحان، وظهرت إشارات واضحة لها في كتابات بنسالم حميش.

✅ خاتمة

إذا كانت محاولة الصخيرات قد فجّرت أزمة علنية بين النظام والجيش، فإن محاولة غشت 1972 وضعت حدًا لكل أوهام المشاركة. من تلك اللحظة، بدأ عهد جديد، أصبحت فيه الدولة تُدار بالعقل الأمني لا السياسي، وتراجع فيه الأفق الديمقراطي لصالح منطق البقاء.

ورغم سنوات المصالحة التي تلت، ومشاريع الإنصاف والعدالة الانتقالية، فإن هذا الحدث ظل حاضرًا في وجدان المغاربة، لا كذكرى، بل كجرح لم يُشفَ بعد.

أضف تعليق