العدالة المؤجلة: محاكمات غائبة في ذاكرة سنوات الرصاص

في مغرب ما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة، يلوح سؤال مُلح لم تفلح المصالحة في طمسه: لماذا لم يُحاسَب أحد؟ كيف يمكن لعدالة انتقالية أن تُطوي الصفحة دون أن تكتب أسماء الجلادين؟ في سنوات الرصاص، كان للمعتقل زنزانة، وللجلاد مكتب. وحين انفتح باب المصالحة، خرج المعتقل من الصمت… وبقي الجلاد بلا اسم.

⚖️ محاكمات مؤجلة: إنصاف بدون مساءلة

مع انطلاق هيئة الإنصاف والمصالحة سنة 2004، بدا أن المغرب يسلك طريقًا جديدًا للاعتراف والانفتاح على جراح الماضي. لكن المسار سرعان ما اصطدم بجدار الصمت القانوني:

  • لم تُفتح أي متابعة قضائية ضد من تورطوا في التعذيب أو التصفية أو الإخفاء القسري.
  • اكتفت الدولة بتقديم تعويضات مالية ورمزية للضحايا وأسرهم.
  • لم يُنشر أي سجل رسمي بأسماء الجلادين أو المسؤولين.

تحوّلت العدالة الانتقالية إلى عدالة رمزية، تمنح العزاء ولا تُعيد الحق، بل تحفظ السلم الاجتماعي مقابل تجميد الحقيقة.

🏛️ هيئة الإنصاف والمصالحة: حدود الممكن السياسي

رغم أنها شكّلت سابقة في العالم العربي، فإن هيئة الإنصاف والمصالحة كانت محكومة بإكراهات:

  • تفويض محدود: مهمتها كانت المصالحة، لا المحاسبة.
  • توازن حساس بين كشف الحقيقة وحماية رمزية الدولة.
  • إرادة ملكية واضحة لطي الصفحة لا فتحها بالكامل.

ورغم استماعها إلى أكثر من 20 ألف شهادة، فإن غياب الملاحقة القضائية أبقى الملف ناقصًا، وأبقى العدالة رهينة السياق السياسي.

👤 أين هم اليوم؟ الوجوه التي لا تُسمى

من بين من وُجهت إليهم اتهامات علنية في شهادات الضحايا:

  • ضباط شرطة بارزون مارسوا التعذيب في درب مولاي الشريف.
  • ضباط جيش ومسؤولون عن معتقلات سرية مثل تازمامارت، قلعة مكونة، أكدز.
  • موظفون إداريون تواطؤوا في التزوير، طمس الأدلة، أو تنفيذ التعليمات.

🗣️ شهادة حية من معتقل سابق:

“كان المحقق نفسه يفتخر بعدد الصدمات الكهربائية التي يوزعها. قال لي مرة: ‘لن تُحاسبني لأني أشتغل مع الوطن’.”

البعض تقاعد بهدوء، البعض رُقّي بعد التسعينيات، والبعض عاد إلى الظل بعد أن خدم في وضح النهار.

📣 شهادات الضحايا: المصالحة ناقصة

في شهادته الشهيرة، قال أحمد المرزوقي، الناجي من تازمامارت:

“أقبل المصالحة، لكنني لا أفهم كيف نتصالح مع من لا يُسمي نفسه، ولا يعتذر، ولا يُحاسب.”

وقالت فاطمة الإفريقي:

“الذاكرة بحاجة إلى عدالة. لا نريد انتقامًا، لكننا لا نقبل النسيان.”

من بين الضحايا أيضًا من قرر التزام الصمت، لأن الكلفة النفسية للحديث باتت أثقل من السكوت، لكنهم في صمتهم يطلبون الاعتراف الكامل.

🌍 مقارنة دولية: المصالحة لا تعني العفو التلقائي

تجارب العالم تُبيّن أن:

  • جنوب إفريقيا: هيئة الحقيقة والمصالحة منحت العفو فقط لمن اعترف بكامل جرائمه.
  • الأرجنتين: بعد سنوات من الصمت، عاد الضحايا بقوة وطالبوا بمحاكمات فعلية.
  • رواندا: رغم الفظاعات، أُنشئ نظام قضائي محلي لمحاكمة مئات الآلاف.

المغرب اختار أن لا يسمّي، لا يحاكم، لا يعاقب. لكنه بذلك أبقى صفحة مطوية فوق دم لم يجف.

🗂️ الأرشيف: من يملك الحقيقة؟

جزء كبير من المعركة يدور اليوم حول الأرشيف:

  • من يملك أرشيف سنوات الرصاص؟ الأمن الوطني؟ المخابرات؟ الجيش؟
  • هل يمكن للمصالحة أن تكتمل دون كشف الوثائق؟
  • هل يحق للمواطن معرفة ما جرى في اسمه؟

إلى اليوم، لم تُنشر الملفات الكاملة، ولم يُفتح الأرشيف أمام الباحثين، باستثناء أجزاء صغيرة مرتبطة بالتعويضات.

🧭 هل ما زال الوقت مناسبًا للمساءلة؟

رغم مرور أكثر من عقدين، يرى العديد من الحقوقيين والمثقفين أن:

  • العدالة ليست فعلًا سياسيًا، بل التزام أخلاقي دائم.
  • من حق الأجيال القادمة أن تعرف وتُحاسب رمزيًا.
  • لا ديمقراطية دون كشف الحقيقة، ولو متأخرة.

📌 مقترحات للمستقبل:

  • نشر أسماء المسؤولين عن الانتهاكات.
  • إدراج شهادات الضحايا في التعليم العمومي.
  • إنشاء محكمة رمزية تؤرشف الذاكرة وتُقيم العدالة الرمزية.
  • إطلاق سلسلة وثائقية وطنية حول التجاوزات.

✅ خاتمة: عدالة بلا أسماء… ذاكرة ناقصة

إذا كانت المصالحة قد طوَت الصفحة، فإن العدالة لم تكتبها بعد. ولا ذاكرة تصمد ما لم تُذكر فيها كل الأسماء، بما في ذلك أولئك الذين ظنوا أن النسيان هو الحصانة.

ربما لم يعد من الممكن إعادة الضحايا إلى ما كانوا عليه، لكن من الممكن أن نُعيد للتاريخ كرامته. ومَن لا يواجه ماضيه… محكوم عليه أن يُعيده.

أضف تعليق