✍️ إعداد: histoiredumaroc.com – الذاكرة المغربية في مواجهة الكارثة
📍 مقدمة
في لحظة واحدة، يمكن لزلزال أن يُسقط مدينة كاملة من خريطتها المعمارية. وبينما تُحصى الأرواح وتُسجّل الخسائر، تتغيّر نظرة المجتمع نحو “البناء” ذاته. لم تكن الزلازل في المغرب مجرد كوارث طبيعية، بل كانت لحظات حاسمة في تطور الهندسة المعمارية، من النمط التقليدي القروي إلى البنية التحتية المقاومة. من أكادير 1960 إلى الحوز 2023، كتب المغرب قصة عمرانية لا تقل عمقًا عن مأساته الإنسانية.
🏚️ الزلزال ككاشف للهشاشة
في المغرب، خصوصًا في المناطق الجبلية والريفية، تنتشر أنماط البناء التقليدي المعتمدة على الطين والخشب، وهو ما يجعل المنازل جميلة، لكن غير آمنة. جدران سميكة، أسقف منخفضة، أعمدة محدودة أو منعدمة… كلها خصائص تساهم في الانهيار الفوري عند أول هزة.
زلزال الحسيمة 2004 كشف أن الآلاف من المساكن لم تكن مطابقة لأدنى شروط الأمان، لا من حيث الخرسانة، ولا من حيث التصميم. أما زلزال الحوز 2023 فقد أكد مرة أخرى أن الهندسة المعمارية التقليدية تحتاج إلى ثورة علمية، لا فقط ترميمًا شكليًا.
🧱 أكادير 1960: المدينة التي بُنيت مرتين
يُعتبر زلزال أكادير نقطة تحوّل مفصلية في تاريخ المغرب الحديث. فبعد أن دمّر الزلزال المدينة بالكامل تقريبًا، قرر الملك الراحل محمد الخامس أن تُبنى من جديد، ولكن هذه المرة بأسس هندسية حديثة.
تم إدخال أول مفاهيم البناء المضاد للزلازل في المغرب، وتم الاعتماد على شركات دولية ومهندسين مغاربة ذوي كفاءة لتشييد مدينة جديدة أكثر تنظيمًا وصلابة.
بُنيت أكادير الثانية بتقسيمات عمرانية تراعي الاتجاهات الجغرافية، وأنظمة الصرف، وقياسات الأساسات المقاومة للهزات. لقد كانت بمثابة مختبر معماري وطني استلهمت منه مدن أخرى لاحقًا.
📐 التحوّل نحو قوانين البناء الزلزالي
بعد صدمة أكادير، بدأت الدولة المغربية تدريجيًا بسنّ قوانين تنظيمية تتعلق بالبناء، لكن الأمر لم يُفعّل بصرامة حتى بداية الألفية الثالثة. في 2002، صدر الكود الزلزالي المغربي الذي يفرض معايير محددة للبناء في المناطق المعرضة للخطر، خاصة في الشمال والأطلس.
يشمل هذا الكود معايير تقنية تتعلق بـ:
- نوعية الخرسانة وحديد التسليح.
- عرض الأعمدة والمسافة بينها.
- ضرورة توفير تقارير جيولوجية قبل الترخيص بالبناء.
لكن هذا الكود لم يُطبّق بالشكل المطلوب في القرى، بسبب غياب المراقبة وارتفاع تكلفة الامتثال. والنتيجة؟ بقاء ملايين المغاربة في مساكن قد تنهار في أية لحظة.
🏘️ إشكالية “البناء العشوائي”
من أكبر التحديات التي تواجه المغرب اليوم هي ظاهرة البناء غير المرخّص أو ما يُعرف بالعشوائي، خاصة في ضواحي المدن الكبرى. هذه المباني تُشيَّد غالبًا دون إشراف هندسي، بمواد رديئة، وبدون احترام لأي معيار مقاومة زلزالية.
زلزال الحوز أظهر أن المساكن الحديثة المنجزة بدون رخص انهارت بنفس سهولة البيوت التقليدية، بل ربما كانت أكثر خطرًا بسبب موادها الرخيصة. وهذا يطرح سؤالًا كبيرًا حول من المسؤول: المواطن البسيط؟ أم المنظومة الإدارية التي تُهمل التخطيط العمراني؟
🧱 الهندسة التقليدية: هل يمكن تكييفها؟
البناء الطيني والتراثي ليس بالضرورة هشًا بطبيعته. في اليابان، مثلًا، توجد قرى كاملة بُنيت بالخشب وتقاوم الزلازل بفضل تقنيات تكييفية متقدمة. في المغرب، توجد تجارب محلية ناجحة لبناء طيني مقاوم، مثل مشروع إعادة إعمار دوار تلات نيعقوب بعد زلزال الحوز، باستخدام تقنيات مثل:
- اللبن المضغوط.
- القباب ذات التوازن الطبيعي.
- تقوية الجدران بالألياف الطبيعية.
هذه النماذج تُعيد الاعتبار للهندسة المحلية، لكن بشرط إدماجها بالعلم الحديث، بدل رفضها كليًا أو الرهان فقط على الخرسانة.
🏢 المدن الكبرى… بين الحداثة والحذر
في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء، الرباط، طنجة، أصبحت الأبراج وناطحات السحاب واقعًا عمرانيًا جديدًا. وهنا تبرز أهمية الاعتماد على هندسة زلزالية متطورة تدمج:
- العزل الزلزالي للأساسات.
- الهياكل الفولاذية المرنة.
- نظم الإنذار المبكر والهروب.
غير أن تطبيق هذه المعايير ما زال نخبويًا، مقتصرًا على المشاريع العقارية الفاخرة، بينما تُترك أحياء كاملة في الهامش لمصيرها، في حال حدوث زلزال قوي.
🛠️ هل نحن مستعدون؟
رغم التقدم، فإن السؤال المؤرق هو: هل البناء في المغرب مستعد لزلزال قادم؟
الإجابة الواقعية: جزئيًا فقط.
فبينما تطوّرت البنية التحتية في بعض المدن، لا تزال ملايين المساكن التقليدية أو العشوائية خارج أي منظومة حماية. لذلك، لا يكفي إصدار القوانين، بل يجب:
- تفعيل المراقبة الميدانية.
- دعم البناء المقاوم في العالم القروي.
- خلق برامج تحسيسية للمواطنين حول مخاطر “التوفير على حساب الأمان”.
✒️ خاتمة: من الطين إلى الفولاذ… وما بينهما
غيّرت الزلازل المغرب عمرانيًا، ودفعت بالمعمار نحو مصالحة بين الأصالة والنجاة. فليس المطلوب نسخ النموذج الأوروبي أو الخليجي، بل بناء مغربي أصيل، يُقاوم دون أن يفقد هويته. لأن المسألة ليست فقط في مواد البناء، بل في الوعي الجماعي بأن الأمان هو حق، وليس رفاهية.