🌍 1. مقدمة: حين اهتزّت فاس وارتبك التاريخ
في صباح غائم من سنة 1522، لم تكن فاس سوى مدينة واثقة من ذاتها، جالسة على عرش العلم والفقه والتاريخ، بقبابها البيضاء، وسقوفها الخضراء، وأصوات طلبة القرويين التي تتردد في أزقتها كما يتردد صدى القرآن في المساجد القديمة. كانت فاس يومها قلب المغرب، وعقله المتقد، وذاكرته الروحية. لكن فجأة، وبدون سابق إنذار، اهتزّت الأرض تحتها بقوة لم تعرف لها مثيلًا من قبل، فانشقّت الأزقة، وسقطت المآذن، وانهارت البيوت القديمة مثل أوراق الخريف.
زلزال فاس سنة 1522 لم يكن فقط رجّة أرضية عادية، بل كان هزّة في العمق الحضاري والعمراني لعاصمة العلم، ومفترقًا حاسمًا في تاريخ المدينة الذي دوّنته الأقلام، لكن محاه الصمت في الذاكرة الشعبية. لقد كان ذلك الزلزال من أشدّ الكوارث الطبيعية التي ضربت المغرب الوسيط، من حيث القوة والخسائر وعدد الضحايا، لكنه في الوقت نفسه ظلّ خارج التركيز الحديث، كما لو أن المدينة قررت نسيانه عن عمد، أو أن جراحها كانت أكبر من أن تُحكى.
كان الزلزال لحظة انكشاف للهشاشة: هشاشة العمران التقليدي، هشاشة السلطة الوطاسية التي كانت تتخبّط، وهشاشة البنية الاجتماعية حين تواجه كارثة بدون جهاز إنقاذ ولا طب حديث. لكنه أيضًا كشف عن صلابة الروح الفاسية، التي قاومت وانتصبت على أنقاضها، واستأنفت الحياة بإصرار.
هذا المقال لا يروي فقط ما حدث، بل يستحضر الدرس من تحت الركام: أن المدن، مهما بدت منيعة بتاريخها، قد تسقط في لحظة… وأن الذاكرة، حين تُدفن مع الضحايا، تتحول إلى خطر آخر، لا يقل دمارًا عن الزلزال نفسه.
🕰️ 2. السياق الزمني والسياسي: المغرب في مطلع القرن 16
لنفهم زلزال فاس 1522، لا بد من العودة إلى السياق الذي وقعت فيه الكارثة. كانت المملكة المغربية آنذاك تعيش واحدة من أكثر مراحلها اضطرابًا وتفككًا، حيث كانت الدولة الوطاسية بالكاد تسيطر على ما تبقى من المجال السياسي بعد تراجع المرينيين، وبروز التهديدات البرتغالية على السواحل، والانقسام الداخلي الذي طال حتى النخبة الدينية والعسكرية.
فاس، العاصمة الروحية والعلمية، كانت في قلب هذا المخاض. ورغم مركزيتها، كانت تعاني من تراجع واضح في بنيتها التحتية، واختلالات كبيرة في تسيير الشؤون العامة، وهو ما جعل المدينة أكثر عرضة للضرر عند وقوع الكارثة. فالأسوار لم تكن كلها مصانة، والمرافق العامة شاخت بفعل الإهمال، والمباني السكنية في العدوة الكبرى خاصة، بنيت بمواد تقليدية، مثل الطين والأخشاب، دون أية مقاومة تذكر للهزات الأرضية.
السلطان محمد الوطاسي كان يواجه تحديات من كل الجهات: تفكك جيشه، تدهور الاقتصاد، وغياب السيطرة الكاملة على القبائل. وبينما كان البلاط يعيش حالة من القلق بسبب التهديدات البرتغالية من الشمال، جاءت الكارثة من باطن الأرض، لا من البحر، فعرّت ضعف الدولة، وهشاشة أدواتها في مواجهة الكوارث.
تاريخيًا، لم يكن هناك جهاز للوقاية المدنية أو طاقم متخصص في التدخلات السريعة، بل كان السكان يواجهون الأزمات الجماعية بأدوات تقليدية: بالدعاء، بالتكافل، أو بالهجرة المؤقتة. وهذا ما حدث بالفعل بعد الزلزال، حيث فرّ الكثير من السكان خارج الأسوار، وانتشر الرعب، وانتقلت عدوى الفزع إلى المدن المجاورة.
في هذا السياق المعقد سياسيًا واجتماعيًا، لم يكن الزلزال مجرد كارثة طبيعية، بل كان حدثًا مفصليًا كشف زيف السلطة، وفجّر أسئلة كبرى حول مشروعية الحُكم، والعدالة المجالية، وقدرة الدولة على حماية رعاياها.
📅 3. تفاصيل الزلزال: متى وكيف ضرب؟
وفق ما تُجمع عليه المصادر التاريخية التي تناولت زلزال فاس، فإن الكارثة وقعت في النصف الثاني من سنة 1522، وتحديدًا خلال أحد أشهر الخريف، إما في شتنبر أو أكتوبر. لم تكن هناك أجهزة لرصد الزلازل أو قياس قوتها كما هو الحال اليوم، لكن المؤرخين أشاروا إلى أن الهزة كانت عنيفة إلى درجة أنها “جعلت الأرض تنشق، والبيوت تنهار على من فيها، والناس يهربون حفاة من الرعب”.
التقديرات الحديثة المبنية على الآثار المسجلة ترجّح أن قوة الزلزال تجاوزت 6.5 درجات على سلم ريختر، وهو رقم كافٍ لإحداث دمار واسع، خاصة في مدينة مبنية بمواد تقليدية، وأحياء مكتظة كفاس.
تشير الروايات إلى أن الهزة الأولى كانت قصيرة لكنها مدمرة، تبعتها ارتدادات أقل قوة لكنها زادت من تفاقم الوضع، وأدت إلى تدمير ما لم ينهَر مباشرة. بعض الأحياء تأثرت أكثر من غيرها، خاصة العدوة الكبرى التي كانت مركزًا للأنشطة الحرفية والتجارية، في حين سُجّل انهيار جزئي في بعض الزوايا والمدارس.
سُمع صوت يشبه الرعد القوي قبل الهزة، حسب ما روى أحد فقهاء العصر، تلاه اهتزاز الأرض بشكل مائل، قبل أن تنفجر صرخات النساء في الأزقة وتتعالى التكبيرات من فوق الأسطح التي ما لبثت أن تهاوت بدورها.
الزلزال ضرب المدينة دون مقدمات، وبدون أية وسيلة للإنذار، وهذا ما جعل عدد الضحايا كبيرًا، والارتباك عامًا. فاس كانت في حالة نوم طبيعي، وتحولت في دقائق إلى مدينة مذعورة، يتصاعد منها الغبار، وتتشقق فيها الأرض، وتتهاوى معالم عمرها قرون.
🏚️ 4. حجم الدمار: من المدينة العتيقة إلى خارج الأسوار
كان الدمار الذي خلّفه زلزال 1522 في فاس شاملًا ومروّعًا. لم تسلم منه لا المعالم العمرانية، ولا الأحياء الشعبية، ولا القصور، ولا الزوايا. الأحياء الأكثر تضررًا كانت تلك المكتظة بالسكان، مثل حي القرويين، الرصيف، والعين الزرقاء، حيث سقطت الدور القديمة فوق رؤوس سكانها، ودُفنت أسر بأكملها تحت الأنقاض.
المساجد الكبرى عرفت انهيارات في مآذنها أو أسقفها، ومنها ما توقف فيه الأذان لأسابيع. تشير بعض المصادر إلى أن مسجد القرويين نفسه تعرّض لأضرار، وإن لم تُحدد بدقة درجة الخراب. كما تضررت المدارس العتيقة، وتعرضت أسواق مغطاة كالصفارين والمشور لتدمير واسع، إذ كانت بنية السوق تقليدية، مصنوعة من خشب وأقواس حجرية غير مدعّمة.
انهارت قناطر مائية كانت توصل الماء من العيون المحيطة إلى المدينة، وتضررت أنظمة الري التقليدية، ما جعل الحياة اليومية تتعطل بالكامل. كما انشقّت أجزاء من سور المدينة في نواحي باب الفتوح وباب الكيسة، وهو ما فتح المجال لنزوح سكان فاس إلى الضواحي خشية وقوع هزات ارتدادية جديدة.
أما خارج الأسوار، فكانت البساتين والحارات المحيطة مسرحًا لانهيارات صخرية، خصوصًا في المناطق التي تقع على السفوح مثل زواغة والدويرة. وتحدثت الروايات عن تساقط صخور ضخمة من جبل زلاغ باتجاه المدينة، مما خلق هلعًا إضافيًا.
لم يكن الزلزال مجرد رجّة، بل كان حدثًا أشبه بإعادة كتابة الخرائط المعمارية للمدينة، وأدى إلى تغييرات عميقة في النسيج العمراني استمرت لسنوات، بل عقود، بعدها.
💀 5. الخسائر البشرية والاجتماعية
تُجمع المصادر التاريخية على أن زلزال فاس سنة 1522 كان من أكثر الكوارث الطبيعية دموية في تاريخ المدينة. ورغم غياب الإحصاءات الدقيقة بسبب طبيعة التأريخ في تلك الحقبة، فإن التقديرات تشير إلى سقوط آلاف القتلى خلال دقائق قليلة. بعض المؤرخين تحدثوا عن انهيار أكثر من ثلث المدينة، ما يرجّح أن عدد الضحايا قد تجاوز عدة آلاف، خاصة أن الزلزال وقع ليلاً، بينما كانت أغلب العائلات نائمة داخل منازلها الطينية.
الطبيعة الكثيفة للسكن، وضيق الأزقة، وتلاصق المنازل، جعلت عمليات الهروب شبه مستحيلة. ولم تكن هناك فرق إغاثة أو أدوات حفر، مما أدى إلى وفاة الكثيرين تحت الأنقاض دون أن تصلهم النجدة. وكان من بين الضحايا عدد كبير من الأطفال والعجزة والنساء، كما فقدت المدينة عددًا من علمائها وفقهائها.
لكن الأثر لم يكن جسديًا فقط. فقد عاشت المدينة صدمة جماعية ونفسية هائلة. كتب بعض فقهاء العصر عن “غضب نزل من السماء”، بينما انتشرت مظاهر الحزن والحداد في كل زوايا المدينة، وامتنع الناس عن الزينة والمناسبات لأشهر. انهارت العلاقات الاجتماعية، وسادت مشاعر الفقد والذعر، وانتشرت الشائعات حول نهاية الزمان، وفساد العالم، وغضب الله.
على المستوى المجتمعي، اضطُر آلاف السكان إلى مغادرة المدينة مؤقتًا، فنشأت مخيمات بدائية خارج الأسوار، حيث احتمى الناس بالخيام أو الكهوف أو أشجار الزيتون في ضواحي زواغة وعين قادوس. وعرفت فاس لأول مرة ظاهرة “الهروب الجماعي من المدينة”، بسبب الخوف من الهزات الارتدادية والتشقق الذي طال الأرض.
لقد تسبّب الزلزال في تمزيق النسيج الاجتماعي الفاسي، وخلق ندبة نفسية لم تُشفَ سريعًا. ومثل كل الكوارث، لم يترك فقط موتى تحت الأنقاض، بل أيتامًا، أرامل، نازحين… ومدينة تبحث عن نفسها في ما تبقى من حجارة وذاكرة.
📜 6. شهادات ومصادر تاريخية عن الكارثة
رغم أن زلزال فاس 1522 لم يحظَ بتوثيق إعلامي كما هو الحال في عصرنا، إلا أن عددًا من المؤرخين المغاربة القدماء سجّلوا تفاصيل هذا الحدث المهول، ووصفوه بأسلوب يجمع بين الدقة الروائية والتأمل الديني. من بين أهم هذه المصادر:
- ابن القاضي في كتابه “جذوة الاقتباس” أشار إلى أن المدينة “تزلزلت زلزلة عظيمة، فهلك فيها خلق كثير، وانهدمت مساكن وأحياء”.
- الناصري في “الاستقصا” كتب أن الزلزال “كان آية من آيات الله، أبادت كثيرًا من سكان المدينة، ومسحت معالمًا عمرت قرونًا”.
- كما أورد الزياني أن فاس “ارتجت حتى ضجّت الأرض من بكاء الأرواح المدفونة”.
تُظهر هذه الشهادات أن الحدث لم يكن فقط مادّيًا، بل طُبع برؤية دينية/فلسفية عميقة، إذ اعتبره الكثيرون عقابًا إلهيًا بسبب الفساد أو انحراف السلطان، أو دلالة على اضطراب الزمان.
الخطاب الديني لم يغب عن المشهد. في خطب الجمعة التي تلت الزلزال، دوّنت بعض النصوص الفقهية إشارات واضحة إلى الزلزال باعتباره تذكيرًا بـ “قهر الله”، ودعوة إلى التوبة. بل إن بعض الوعّاظ رأوا في الكارثة نهاية وشيكة للعصر، أو بداية لمرحلة جديدة من التحولات.
بالمقابل، ندر التوثيق العلمي أو التحليلي، إذ لم تكن العلوم الزلزالية قد ظهرت بعد في بلاد المغرب. وكان الفهم السائد أن الكوارث الطبيعية جزء من العقاب أو الاختبار الرباني، مما جعل تعامل الناس مع الزلزال لا يتجه نحو الوقاية، بل نحو التوبة والخوف.
ولعل أبرز ما تكشفه هذه الشهادات، هو أن الزلزال دخل الوعي الديني والروحي أكثر من دخوله في السجلات الرسمية أو الدراسات الاجتماعية، مما جعله لاحقًا حدثًا “منسيًّا جزئيًا”، رغم فداحته، لأنه لم يُصنَّف كدرسٍ مدني أو سياسي، بل كـ”رسالة من السماء”.
🏗️ 7. جهود الإغاثة وإعادة الإعمار في القرن 16
في غياب مؤسسات الدولة الحديثة، كانت جهود الإغاثة سنة 1522 تعتمد على رد الفعل السلطاني، والتكافل المحلي، ومبادرات بعض العلماء والوجهاء. تشير المصادر التاريخية إلى أن السلطان محمد الوطاسي أمر بإرسال قوات لرفع الأنقاض، وتخصيص أموال من بيت المال لإيواء الناجين، ومساعدة المتضررين، خصوصًا في الأحياء الأكثر تضررًا.
تم توزيع الخيام في الساحات المفتوحة مثل باب الفتوح وسيدي بوجيدة، وتحولت بعض الزوايا والمساجد إلى مراكز إيواء جماعية. وقام عدد من أثرياء المدينة بتمويل عمليات الإغاثة، بما في ذلك توفير الطعام واللباس، وترميم المساجد الصغيرة. كانت الروح الجماعية حاضرة رغم محدودية الوسائل.
أما على مستوى إعادة الإعمار، فبدأت أولى المحاولات خلال الأشهر الموالية، لكن بوتيرة بطيئة جدًا. فقد تعرّضت المدينة لنزيف بشري ومادي، وتعطلت حركة التجارة، وخاف الناس من البناء مجددًا في المناطق التي تشققت أرضها.
تم التركيز على إصلاح المدارس والمساجد أولًا، باعتبارها مراكز ثقة وأمان روحي. وأعادت بعض العائلات بناء منازلها باستخدام نفس المواد القديمة، بينما سعت أخرى إلى تحسين الأساسات وتدعيم الجدران، لكن دون فهم هندسي متطور لمقاومة الزلازل.
اللافت أن إعادة الإعمار لم تكن مهيكلة وفق خطة عمرانية مركزية، بل عشوائية في معظمها، تقودها الضرورة لا التخطيط، ما جعل كثيرًا من الأحياء تحتفظ بآثار الخراب لعقود لاحقة. ويُقال إن بعض الدكاكين في الرصيف والأسواق لم تُرمَّم بالكامل إلا بعد نصف قرن من الزلزال.
رغم كل الجهد، ظلّ شبح الزلزال حاضرًا في العيون والأسواق. فالإعمار أعاد الحجارة، لكنه لم يعُد بالأمان. ولأن المدينة لم تتعلم كيف تقاوم الزلازل، بقيت هشاشتها جزءًا من تاريخها، وسرًّا من أسرارها المعمارية.
🕌 8. تأثير الزلزال على معالم فاس التاريخية
لم يكن زلزال سنة 1522 مجرد كارثة عمرانية مؤقتة، بل كان نقطة تحوّل في المشهد المعماري والحضاري لمدينة فاس. فالمدينة التي كانت إلى حين تُزهر بمآذنها وقبابها وأروقتها المزخرفة، استيقظت على مشهد مرعب: مآذن متصدعة، قباب منهارة، وأقواس تقليدية تهشّمت تحت ثقل الزلزال.
تشير المصادر التاريخية إلى أن عددًا من المساجد العتيقة قد تضرر بشكل مباشر، وعلى رأسها جامع القرويين، الذي شهد تصدعات في بعض أعمدته وسقوفه، وإن لم يُدمّر كليًا. كما تضررت مساجد الصفارين، والقصبة، والأندلسيين، وهي من أعرق معالم المدينة التي تعود إلى العصر الإدريسي والمريني.
المدارس العتيقة، مثل مدرسة العطارين والمدرسة المصباحية والمدرسة البوعنانية، تأثرت هي الأخرى. بعض الزخارف الجصّية سقطت، وبعض الأروقة تهاوت جزئيًا، ما أدى إلى توقف التعليم الديني في فترات طويلة. ولأن هذه المدارس كانت مؤسسات تعليمية وسكنية في الوقت ذاته، فقد أدّى تضررها إلى توقّف حركة العلم والحلقات الفقهية، التي كانت شريان المدينة العلمي.
كذلك، تأثرت الزوايا الصوفية، خاصة زاوية سيدي أحمد بن يوسف، التي استُعملت كمأوى للناجين، وسُجّلت فيها خسائر بشرية ومادية. كما سقطت أجزاء من سور فاس، خاصة في المناطق الشرقية، مما جعل المدينة مكشوفة أمنيًا لفترة، وفتح باب التكهنات بضعف البركة التي كانت تحميها.
المؤلم أن كثيرًا من هذه المعالم لم تُرمم في وقتها بالمواد الأصلية، بل تم الاكتفاء بترميمات وظيفية بسيطة، ما أدّى إلى فقدان أجزاء من الهوية العمرانية التقليدية للمدينة.
وبالتالي، لا يمكن فهم تاريخ العمارة الفاسية دون استحضار هذا الزلزال، الذي أعاد تشكيل ملامح المدينة عنوة، وأدخلها مرحلة عمرانية جديدة، فرضتها الأرض لا المعماري.
🧠 9. كيف فهم المغاربة الزلازل في القرن 16؟
في غياب أي تفسير علمي أو تقني، تعامل المغاربة مع زلزال فاس سنة 1522 بمنظور ديني/روحي، مستند إلى الفقه والتصوف والموروث القرآني. سادت قناعة أن الكارثة عقاب إلهي على الذنوب والفساد، خاصة في زمن سياسي غامض تطغى فيه الصراعات على الإصلاح.
في خطب المساجد، اعتُبر الزلزال “آية من آيات الله”، ودُعيت الناس للتوبة والاستغفار والصيام الجماعي، ونُظّمت مواكب دعاء في أزقة المدينة وخرجات استسقاء بالدموع، رغم أن الكارثة لم تكن جفافًا بل هزة أرضية. وظّف الفقهاء اللغة القرآنية في توصيف الحدث: “إذا زُلزلت الأرض زلزالها”، وأشار بعضهم إلى علامات الساعة ونهاية الزمان.
لكن هذا الفهم، رغم عمقه الروحي، لم يولّد وعيًا وقائيًا. لم تُتخذ إجراءات في البناء أو التصميم، ولم تنشأ مؤسسات أو عرف مجتمعي لمواجهة الكوارث المستقبلية. الزلزال فُهم كمصير لا كمشكلة يمكن التعامل معها، وهو ما جعل فاس – كما غيرها من المدن المغربية – تكرر أخطاءها العمرانية عبر القرون.
الزوايا الصوفية لعبت دورًا كبيرًا في تهدئة النفوس، عبر تنظيم جلسات ذكر جماعي، وربط الحدث بسياق روحي أوسع. أما العلماء، فقد كتبوا في دفاترهم تحذيرات مبطّنة، بعضها نُقل إلينا، أغلبها فُقد، وظل محصورًا في النخبة، دون أن يتحول إلى خطاب مجتمعي واسع.
بهذا، يُمكن القول إن زلزال فاس لم يكن فقط هزّة عمرانية، بل كشف عمق المسافة بين العقل الديني والعقل العلمي في التعامل مع الكوارث، وهي فجوة ما زالت تُؤتي آثارها في الوعي الجمعي المغربي إلى اليوم.
🧱 10. هل أدى زلزال 1522 إلى تغيّر في العمران؟
رغم أن الزلزال كشف ضعف البنية المعمارية للمدينة، إلا أن التغيير الذي أحدثه لم يكن راديكاليًا أو منظّمًا. فقد أعيد بناء فاس، لا وفق رؤية هندسية مضادة للزلازل، بل بمنطق الضرورة وسدّ الثغرات. استُعملت نفس المواد: الطين، والجير، والأخشاب، بل وبُنيت المنازل مجددًا فوق نفس الأساسات القديمة التي تشققت بفعل الهزة.
بعض الوجهاء والتجار الكبار لجؤوا إلى تقوية الجدران بأحجار ثقيلة ودعامات داخلية، لكن هذه الممارسات ظلت فردية. ولم يصدر عن الدولة الوطاسية أي نص تنظيمي يفرض نمطًا جديدًا للبناء أو يحدّد شروط السلامة. بذلك، استمرت المدينة في نسق عمراني هشّ، ما جعلها معرضة مستقبلاً لكوارث مماثلة.
التحوّل الأبرز كان في بعض الأحياء التي فقدت هويتها الأصلية، وتمت إعادة تصميمها حسب التغيرات الطارئة. كما ظهرت أحياء جديدة في ضواحي المدينة، بفعل حركة النزوح بعد الكارثة، مما ساهم في توسيع المجال الحضري لفاس خارج أسوارها.
كذلك، لجأ البعض إلى تجنب البناء بالطوابق، وفضّلوا بناء منازل أرضية، خشية تكرار المأساة. فكانت السنوات التالية للزلزال موسومة بشيء من الحذر في التوسع العمراني، لكن ذلك الحذر لم يتحول إلى ثقافة هندسية أو وعي معماري مؤسّس.
إن أهم ما يكشفه تاريخ ما بعد الزلزال، هو أن الكارثة لم تُحوَّل إلى فرصة للتجديد الحضري، بل إلى مرحلة ترميم ارتجالي وعودة إلى ما كان، وهو ما جعل هشاشة فاس تبقى قائمة حتى عصرنا الحالي، رغم الترميمات المتأخرة.
📚 11. الزلزال في ذاكرة فاس: صمت طويل أم جرح مستمر؟
رغم فداحة الزلزال وآثاره العميقة، إلا أن فاس الحديثة لا تحتفظ بذكرى مؤسّسة لهذا الحدث. لا نُصب تذكاري، لا تخليد في التعليم، لا إشارات ليلية في السور، ولا شارع يحمل اسم الضحايا. وكأن الزلزال حَدث وقع، ثم دُفن مع جثثه، واكتفت الذاكرة الرسمية بإهماله.
في الذاكرة الشفوية، نادرًا ما نجد إشارات دقيقة للكارثة. الحكايات الشعبية ركّزت أكثر على مجاعات أو فيضانات أو الغزو، أما الزلازل فظلت موضوعًا ثانويًا، مسكوتًا عنه، أو مؤطَّرًا بالخوف الديني. وهذا الصمت ساهم في مسح الحدث من الوعي الجمعي، رغم ضخامته.
اليوم، حين نتحدث عن تاريخ فاس، نُكثر من ذكر القرويين، سلاطين العلم، والزوايا، ونُهمل لحظات السقوط التي صنعت صلابة المدينة. ولا غرابة في أن الجيل الجديد لا يعرف شيئًا عن زلزال 1522، بينما يعرف كل شيء عن زلازل اليابان.
هل هو عيب في المناهج؟ في الإعلام؟ في الذاكرة؟
ربما في كل ذلك.
فالزلازل لا تُحكى حين تكون عارًا عمرانيًا، أو دليلًا على فشل الدولة في الحماية. وهكذا، ظل زلزال فاس تاريخًا يُوشوش في الكتب، لا يُدرّس في الصفوف.
📝 12. الخاتمة: زلزال فاس… حين يتكلّم الماضي بصوت الأرض
زلزال فاس سنة 1522 لم يكن مجرد رجّة أرضية، بل لحظة كاشفة لسؤال عميق: ما الذي يُبقي المدن حيّة؟ وما الذي يجعلها تنهار؟ لقد هزّ الزلزال حجارة فاس، نعم، لكنه زلزل معها الثقة، والإيمان المطلق بصلابة التاريخ.
مرّت قرون، وبقي الزلزال شاهدًا صامتًا. لا تماثيل له، لا نُصب تذكارية، فقط جدران مائلة، وأساطير منسية، وفقهاء كتبوا على هوامش المخطوطات.
لكن استعادة هذا الحدث اليوم لا تعني فقط التأريخ لما كان، بل هي دعوة للتأهب لما قد يكون.
فإذا كنا لم نتعلّم من زلزال فاس، ومن أكادير، ومن الحسيمة، فماذا ننتظر من القادم؟
التاريخ لا يُعاد، لكن الدروس تتكرّر.
والأرض التي اهتزّت يومًا في فاس… ما تزال تتنفّس تحتنا، تنتظر من يتذكّر.