🌍 1. مقدمة: من تحت جبال الريف… خرج الزلزال صامتًا لكنه قاتلًا
في الساعات الأولى من يوم الإثنين، 24 يناير 2004، كانت الحسيمة ومنطقة الريف بأكملها تغطّ في نوم عادي تحت برد الشتاء المعتاد. لم يكن هناك ما يشير إلى أن الجبال ستغدر بأهلها، ولا أن الريف سيستيقظ على واحدة من أعنف المآسي الطبيعية في تاريخه الحديث. فجأة، وبدون مقدمات، بدأت الأرض تهتز تحت الأقدام، وتطايرت الحجارة من الجدران، وامتلأ الليل بأصوات الانهيارات والصراخ، ثم خيّم الصمت.
زلزال الحسيمة لم يكن زلزالًا عابرًا. كان رسالة موجعة خرجت من أعماق الأرض لتُعلن أن التهميش قد لا يقتل في السياسة فقط، بل أيضًا في الجيولوجيا. كانت الكارثة أكبر من مجرد هزة أرضية، كانت مرآة لواقع هشّ، لمدن نائمة فوق الشقوق، ولقرى بعيدة عن ضوء الإعلام والقرار.
🕰️ 2. يوم الإثنين 24 يناير 2004: حين استيقظ الشمال على الفاجعة
في تمام الساعة 2:27 من صباح الإثنين، دوّى الزلزال. قوة بلغت 6.3 درجات على مقياس ريختر، وفق المعهد الوطني للجيوفيزياء، ومركزه تحت البحر الأبيض المتوسط، على بعد 15 كيلومترًا من سواحل الحسيمة. لكن رغم أن المركز لم يكن تحت المدينة مباشرة، فإن ارتدادات الهزة كانت كارثية على الأرض.
الناس استيقظوا على أصوات تحطّم الجدران، وشقوق في الأسطح، وصيحات الأطفال والنساء. في إمزورن، خرجت العائلات مذعورة نحو العراء، وفي أجدير انهارت منازل من الطوب على رؤوس ساكنيها. بعض الناجين قالوا إنهم ظنوا أن الأمر يتعلق بقصف، أو انفجار، أو “علامة من علامات الساعة”.
الظلام، الصقيع، غياب المعلومة، والانهيار المفاجئ للمباني جعل الساعات الأولى مرعبة. ومع طلوع الشمس، بدأت معالم الفاجعة تتّضح: المدينة والقرى المجاورة فقدت مئات الأرواح في دقائق، فيما بدأ الناس في الحفر بأيديهم بين الأنقاض.
📊 3. قوة الزلزال والبعد الجيولوجي
رغم أن الزلزال لم يكن الأقوى من حيث الأرقام، فإن تأثيره كان مدمرًا بشكل غير متوقع. قوة الزلزال بلغت 6.3 درجات، لكنه كان سطحيًا ومتمركزًا في منطقة شديدة النشاط الزلزالي، حيث تلتقي الصفيحة الإفريقية مع الصفيحة الأوراسية، في نطاق معروف تاريخيًا بحركته التكتونية الدائمة.
المشكلة الكبرى كانت في بنية الأرض، وقرب الزلزال من اليابسة، وتراكم الضغوط الجيولوجية منذ زلزال الناظور سنة 1994. هذه العوامل مجتمعة جعلت الزلزال يُحدث دمارًا كبيرًا في مدى زمني قصير جدًا.
الهزات الارتدادية لم تتوقف في اليوم نفسه. أكثر من 20 هزة ارتدادية سُجّلت خلال أسبوع، ما زاد من هلع السكان وأجبر الآلاف على قضاء الليالي في العراء خوفًا من تكرار الكارثة.
🏞️ 4. المناطق المتضررة: قرى منهارة، مدينة مذعورة
لم تكن مدينة الحسيمة وحدها المتضررة، بل شملت الكارثة عددًا كبيرًا من القرى والمراكز الريفية في الإقليم. من بين أكثر المناطق تضررًا:
- إمزورن: المدينة الصغيرة الواقعة جنوب الحسيمة شهدت انهيارات جزئية في العديد من الأحياء، خصوصًا في المباني الشعبية الهشة.
- بني بوعياش: البلدة المجاورة التي عرفت حالات وفاة عديدة نتيجة انهيار مبانٍ سكنية بالكامل.
- أجدير وأيت قمرة: مناطق عرفت دمارًا واسعًا في المنازل والمدارس والمرافق، مع صعوبات في الوصول إليها من طرف فرق الإنقاذ بسبب وعورة الطرق.
- بعض القرى الجبلية مثل تماسينت وتفرسيت، التي لم تُذكر في الأخبار إلا بعد أيام، حيث كانت معزولة بالكامل وتنتظر الإنقاذ وسط برودة يناير القارسة.
الحسيمة نفسها لم تنهَر، لكنها اهتزّت بقوة. سُجّلت فيها تشققات كبيرة في البنايات، وحالات انهيار جزئي، وذُهل السكان من حجم الخسائر في محيطهم القريب.
🏚️ 5. حصيلة الضحايا والخسائر
أعلنت السلطات، بعد أيام من البحث والحفر والإنقاذ، أن عدد القتلى بلغ 628 شخصًا، فيما تجاوز عدد الجرحى والمصابين 926، بينهم أطفال، نساء، ومسنّون. عشرات الجثث دُفنت دون تحديد الهوية، وبعض العائلات دفنت أكثر من خمسة من أفرادها في نفس اليوم.
أما الخسائر المادية فكانت كارثية أيضًا:
- انهيار آلاف المنازل التقليدية في القرى الجبلية
- دمار جزئي أو كلي لأكثر من 100 مدرسة ومؤسسة تعليمية
- تضرر مستشفيات قروية ومراكز صحية، مما جعل تقديم الإسعافات الأولية شبه مستحيل
- تشققات خطيرة في الطرق، وسقوط جسور صغيرة، ما عطّل وصول فرق الإنقاذ
وقد تم نصب مئات الخيام من طرف الهلال الأحمر والجيش المغربي لإيواء المشردين، لكن الأمطار والبرد جعلت الحياة في العراء صراعًا إضافيًا بعد نجاتهم من الزلزال.
🎤 6. شهادات من الأرض المكسورة
كانت شهادات الناجين مفعمة بالألم والذهول، بل وبالغضب أحيانًا. بعضهم لم يكن يصدق أنهم على قيد الحياة، وآخرون فقدوا كل شيء في لحظات.
“كنا نائمين، ثم استيقظنا على السماء فوقنا… لم أجد أولادي، ولم أجد جيراني، وجدت فقط حجارة وصمت.” – سيدة من بني بوعياش
“بقيت أسمع صوت أختي تحت الأنقاض 3 ساعات… ثم صمتت. لا شيء في الدنيا أقسى من ذلك.” – شاب من إمزورن
“كنا نصرخ ونبكي، ونعرف أن لا أحد سيسمعنا بسرعة. نحن في منطقة منسية، حتى في الموت.” – فلاح من أجدير
رجال الوقاية المدنية وأعوان السلطة المحليون واجهوا لحظات عصيبة، يعملون بلا معدات كافية، ولا خرائط للمباني، ويواجهون الخوف من هزات ارتدادية قد تقتلهم وهم يبحثون عن ناجين.
🆘 7. تدخل الدولة: بين البطء والصدمة
أثارت استجابة الدولة انتقادات واسعة في الأيام الأولى. عدد من السكان والمراقبين وصفوا التدخل بأنه بطيء، غير منظم، وضعيف الإمكانيات. لم تكن هناك فرق متخصصة كافية في الزلازل، ولا مروحيات مجهزة للوصول إلى القرى المعزولة، ما جعل الكثير من الجرحى ينتظرون ساعات طويلة قبل الوصول إليهم.
السلطات المحلية كانت مرتبكة، وأحيانًا عاجزة، بينما بدأت فرق الجيش تصل بعد 24 ساعة من الزلزال، متأخرة عن الوقت الذهبي للإنقاذ.
لكن مع مرور الأيام، بدأ التنسيق يتحسن، خصوصًا بعد زيارة الملك محمد السادس شخصيًا إلى المنطقة، حيث التقى عائلات الضحايا، ووقف على حجم الكارثة، وأعطى تعليمات واضحة بتسريع عمليات الإنقاذ، وتعويض المتضررين، وإعادة الإعمار الفوري.
🪧 8. الغضب الشعبي وسؤال “المغرب غير النافع”
أثار الزلزال نقاشًا كبيرًا حول مفهوم “المغرب غير النافع”، الذي يُستخدم لوصف مناطق مثل الريف التي تعاني من تهميش تاريخي. شعر الكثير من السكان أن الكارثة فضحت واقع الإقصاء البنيوي الذي يعيشونه منذ عقود، وأن الدولة لم تكن مستعدة لحمايتهم، لا قبل الزلزال، ولا بعده.
اندلعت احتجاجات في إمزورن وبني بوعياش، رُفعت فيها شعارات تطالب بالعدالة المجالية، والاعتراف بمأساة الريف، وتحقيق التنمية الحقيقية، لا فقط حين تقع الكوارث.
“نموت في الزلزال، ثم نموت في العراء، ثم نموت من التهميش.“
صرخة عبّرت عن ألم تاريخي لم يبدأ بالزلزال… ولن ينتهي به إن لم يتحقق التغيير الحقيقي.
🌐 9. المساعدات الدولية والتضامن
تدفقت مساعدات دولية على المغرب من عدة دول شقيقة وصديقة. شاركت فرق من:
- إسبانيا
- فرنسا
- الجزائر
- ألمانيا
في عمليات الإنقاذ، إلى جانب توفير خيام ومستلزمات طبية وأجهزة كشف عن الأحياء تحت الأنقاض.
الجالية الريفية في أوروبا – خصوصًا في هولندا وبلجيكا – لعبت دورًا إنسانيًا كبيرًا، من خلال جمع التبرعات، وإرسال مساعدات عينية إلى القرى المنكوبة، والمشاركة في جهود إعادة الإعمار.
كما ساهمت منظمات كـالهلال الأحمر، وأطباء بلا حدود، واليونيسف في تقديم الإغاثة والدعم النفسي، خصوصًا للأطفال الذين عاشوا صدمة الزلزال بكل تفاصيلها.
🏗️ 10. إعادة الإعمار: من رماد الزلزال إلى أحياء جديدة
أُطلقت مشاريع إعادة الإعمار تحت إشراف لجنة ملكية، وشُرع في بناء وحدات سكنية جديدة في القرى المتضررة. تم تقديم مساعدات مالية للأسر، ومواكبة تقنية لضمان بناء مقاوم للزلازل.
لكن العملية واجهت تحديات:
- بطء في التنفيذ
- مشاكل إدارية في تعويض بعض الأسر
- تغييب سكان بعض الدواوير عن قرارات إعادة التوطين
مع ذلك، ظهرت أحياء جديدة في محيط إمزورن والحسيمة، مجهزة بشبكات كهرباء وماء وصرف صحي، لكنها لم تمحُ تمامًا شعور السكان بأنهم فقدوا شيئًا من تاريخهم وارتباطهم بالأرض.
📚 11. الزلازل في الذاكرة المغربية: من أكادير إلى الحسيمة
كأن الزلازل تكتب فصولًا متقطعة في كتاب التاريخ المغربي الحديث. أكادير 1960، الحسيمة 2004، الحوز 2023…
كلها كوارث مختلفة في المكان، متشابهة في الدرس: الهشاشة تقتل أكثر من الزلزال.
لكن هل تعلّمنا؟
- لا يزال المغرب يفتقر إلى نظام إنذار مبكر فعال
- القوانين الزلزالية موجودة، لكن لا تُطبق دائمًا
- ثقافة البناء الآمن غائبة في القرى والمدن الصغيرة
ولم تُخلّد هذه الزلازل بما يكفي في الذاكرة المدرسية أو الإعلامية، وكأننا نُفضّل نسيان الكارثة بدل تحصين النفس منها مستقبلاً.
📝 12. الخاتمة: حين سقطت الحسيمة… وانكشفت التصدعات القديمة
لم يكن زلزال الحسيمة مجرد حدث جيولوجي، بل صفعة على وجه الإهمال والتفاوت المجالي. فقد أظهر كم هو مكلف أن تُهمّش مناطق بكاملها، أن تُترك دون تجهيز، دون تخطيط، دون رعاية.
سقطت الحسيمة، نعم، لكنها كشفت لنا أن الخطر لا يأتي فقط من باطن الأرض، بل من فوقها أيضًا، حين تُبنى السياسات على النسيان، والخرائط على المركز وحده.
اليوم، وبعد مرور عقدين، ما زال صوت الزلزال يتردّد في الذاكرة الجماعية. ومن واجبنا أن نعيد استحضاره، لا للبكاء، بل لبناء وطن يقاوم الهزات، بالمباني وبالعدالة معًا.