يمثل دستور 1962 لحظة تأسيسية في تاريخ المغرب المستقل، باعتباره أول وثيقة قانونية رسمية ترسم شكل النظام السياسي وتُعرّف السلطات وتوزيعها في دولة ما بعد الاستعمار. وقد جاء هذا الدستور في سياق محلي متوتر وإقليمي معقد، عكس طموح القصر في بسط الشرعية الدستورية على نظام الحكم، مع الحفاظ على مركزية السلطة في يد الملك الحسن الثاني. ويكشف تحليل هذا الحدث عن تعقيدات الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية المؤسساتية، ومن الهيمنة السياسية إلى منطق القانون.
🏛️ أول الدساتير: من الشرعية التاريخية إلى الشرعية القانونية
في مطلع ستينيات القرن العشرين، لم يكن المغرب يمتلك إطارًا قانونيًا واضحًا لتنظيم السلط أو إدارة الشأن العمومي. فبعد الاستقلال، حكم محمد الخامس عبر ظهير ملكي يمنحه سلطة مطلقة تقريبًا، ما جعل الكثير من الفاعلين السياسيين، خاصة من الحركة الوطنية، يطالبون بإقرار دستور ينقل البلاد إلى نظام دستوري يكرّس التداول الديمقراطي على السلطة.
تولّى الحسن الثاني العرش سنة 1961 وهو شاب، لكنه صاحب مشروع واضح في تثبيت دعائم النظام الملكي. ومنذ الأشهر الأولى لتوليه الحكم، بدأ يلمّح إلى ضرورة إصدار دستور جديد ينظم الحياة السياسية. بالفعل، تم تكليف لجنة معينة من طرف الملك لصياغة مشروع الدستور دون إشراك واسع للأحزاب، ما أثار حفيظة المعارضة لاحقًا.
⚖️ دستور 1962: محتوى مزدوج بين الحداثة والسلطة
صدر الدستور يوم 7 ديسمبر 1962 بعد عرضه على الاستفتاء الشعبي، وتمت المصادقة عليه بنسبة قاربت 97%. وقد تضمّن نصوصًا تحمل في ظاهرها سمات الحداثة القانونية، من قبيل الفصل بين السلطات، ضمان الحريات العامة، التنصيص على انتخابات حرة، واستقلال القضاء.
لكن القراءة العميقة تكشف أن الدستور منح صلاحيات شبه مطلقة للملك، منها:
- تعيين الوزير الأول (رئيس الحكومة) دون الالتزام بنتائج الانتخابات
- إمكانية حل البرلمان بظهير ملكي
- احتكار التشريع عبر الظهائر
- رئاسة المجلس الأعلى للقضاء، والمجلس الأعلى للتعليم
- صفة “أمير المؤمنين” التي تجعل الملك فوق المساءلة السياسية والدستورية
لقد حافظ الدستور على هيبة الملكية في قلب النظام السياسي، وكرّس ما يمكن تسميته بـ”الملكية التنفيذية”، أي نظام تتعايش فيه آليات الانتخاب مع سلطة عليا لا تُقيّدها صناديق الاقتراع.
🗳️ تفاعلات حزبية ومعارضة قوية
لم يكن الاستفتاء الدستوري مناسبة توافق وطني، بل شكّل نقطة تصعيد في المواجهة بين النظام والمعارضة. فقد رفض الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وبعض أطياف اليسار، مشروع الدستور، واعتبره محاولة لتقنين الاستبداد الملكي، والتفافًا على مطالب الإصلاح الديمقراطي.
ورغم أن حزب الاستقلال تعامل مع الوثيقة بموقف أكثر براغماتية، إلا أن أجنحته الراديكالية أبدت تحفظًا واضحًا على تركيبة النظام السياسي المقترح. هذا التوتر سيتفاقم لاحقًا في السنوات الموالية، وسيتحوّل إلى مواجهات مفتوحة، واعتقالات، وانقلابات فاشلة، وكلها ارتبطت بتراكمات أزمة دستورية بنيوية انطلقت من دستور 1962.
اللافت أن الملك الحسن الثاني تعامل مع الرفض الشعبي والسياسي بثقة وسلطة عالية، وواصل مشروعه دون محاولة دمج المعارضة أو إعادة النظر في الصلاحيات الممنوحة له.
🧱 من التأسيس إلى التقييد: دستور على الورق وممارسة فوقه
ورغم أن دستور 1962 قد مثّل قفزة قانونية، إلا أن الممارسة السياسية في الواقع ظلّت تتجاوز النص المكتوب. فعلى سبيل المثال، لم تمر سوى ثلاث سنوات حتى لجأ الملك إلى إعلان حالة الاستثناء سنة 1965، معطّلًا بذلك المؤسسات التي جاء بها الدستور نفسه.
وعرفت تلك الفترة تركيزًا متصاعدًا للسلطة في يد القصر، وتراجعًا لدور البرلمان، وتهميشًا للمعارضة، وسط إعلام رسمي يبرّر كل قرار ملكي بوصفه حماية للأمن والاستقرار. حتى الانتخابات التي نُظمت في ظل الدستور، كانت محدودة الأثر، في ظل نظام انتخابي يفتقر للشفافية، وإدارة تُخضع النتائج لتوازنات السلطة.
ومع كل ذلك، يُحسب لدستور 1962 أنه أرسى لأول مرة فكرة التعاقد الدستوري، وفتح الباب أمام المطالبة المستمرة بإصلاحه، ما جعله أرضية مرجعية في كل النقاشات الدستورية اللاحقة، إلى أن جاءت دساتير 1970، ثم 1972، وأخيرًا دستور 1996 و2011.
📌 خلاصة تحليلية
يمكن النظر إلى دستور 1962 كمؤسسة ولادة صعبة للدولة المغربية الحديثة. فقد جمع بين طموح بناء مؤسسات عصرية، وتشبث الملكية بصلاحياتها التاريخية، في مزيج ولّد نظامًا هجينًا بين الشكل الديمقراطي والمضمون السلطوي.
لقد شكّل هذا الدستور أولى ملامح ما سيُعرف لاحقًا بـ**”الاستثناء المغربي”**: بلد يتبنّى الديمقراطية الشكلية، لكنه يحتفظ بآلية حكم عمودية تقودها المؤسسة الملكية.
1إن دستور 1962 لا يُقرأ اليوم بوصفه وثيقة قانونية فقط، بل كمرآة لمرحلة كاملة من تاريخ المغرب، عنوانها: التوتر بين الشرعية التاريخية وسؤال الشرعية الديمقراطية.