في قلب مدينة الدار البيضاء، وبين الأزقة المزدحمة لحي الحي المحمدي، كان هناك مبنى عادي المظهر يحمل اسمًا عاديًا: “درب مولاي الشريف”. لكنه كان، طوال السبعينيات والثمانينيات، أحد أكثر المواقع رعبًا في المغرب، ورمزًا مظلمًا لمرحلة القمع السياسي التي عُرفت باسم “سنوات الرصاص”. لم يكن مجرد مركز للاعتقال، بل مختبرًا للتعذيب النفسي والجسدي، ومحطة عبور نحو المجهول لكل من سوّلت له نفسه أن يحلم بمغرب آخر.
🧭 الموقع والسياق: مكان في الذاكرة الجماعية لا يُذكر
يقع مركز الاعتقال السري في الحي المحمدي، خلف أسوار باهتة، دون لافتة، ودون تاريخ. لسنوات طويلة، كان المارّة يمرون بجانبه دون أن يعلموا أن تحته، وفي أقبية مظلمة، كانت تجري عمليات تعذيب واستنطاق لمئات المعتقلين السياسيين.
ارتبط هذا المكان بمرحلة حرجة من تاريخ المغرب، حين كانت الأجهزة الأمنية، خاصة تحت إشراف وزارة الداخلية بقيادة إدريس البصري، تمارس أقسى أشكال القمع بحق المعارضين، خصوصًا من تيارات اليسار الراديكالي، كحركة “إلى الأمام”، و”23 مارس”، وشبيبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بالإضافة إلى طلبة، مثقفين، نقابيين، وحتى مواطنين عاديين تورطوا في وشايات مغرضة.
🧬 البنية الداخلية للمركز: لا صوت يعلو فوق أنين الحديد
كان درب مولاي الشريف يتألف من مجموعة زنازين ضيقة معزولة عن الضوء الطبيعي، لا يتجاوز طول الواحدة منها مترين، وعرضها مترًا واحدًا. لا نوافذ، لا أسرة، فقط بطانيات رطبة على الأرض، وروائح العفن والجروح القديمة.
في الطابق السفلي، توجد غرف التعذيب الرئيسية، المجهزة بوسائل بدائية لكنها فعالة في إذلال الإنسان وتحطيمه. الصراخ كان يُسمع من طابق إلى آخر، لكنه لم يكن يخرج من البناية.
🧷 من يُعتقل في درب مولاي الشريف؟ ولماذا؟
لم يكن الوصول إلى درب مولاي الشريف يتطلب تهمًا كبيرة. أحيانًا، كانت وشاية من جار، أو توقيع على منشور، أو حتى قراءة جريدة يسارية كافية لاقتياد شخص إلى المركز. كانت اللائحة تشمل:
- طلاب الجامعات الذين شاركوا في مظاهرات أو حلقات نقاش سياسية.
- مناضلين من حركة “إلى الأمام” و”23 مارس” و”لنخدم الشعب”.
- صحفيين كتبوا مقالات نقدية.
- مثقفين وقعوا على بيانات أو أبدوا تعاطفًا مع الحركات الثورية.
كل من عبّر عن رأي مغاير كان مشروع معتقل.
🛑 تقنيات التعذيب: حين يصبح الجسد حقل اختبار
مارس الجلادون في درب مولاي الشريف أشكالًا متعددة من التعذيب البدني والنفسي:
- الطيّارة: تعليق المعتقل من يديه في وضعية مقلوبة حتى يغيب عن الوعي.
- الصدمات الكهربائية: باستخدام أسلاك تُوصل إلى الأعضاء التناسلية والأذنين.
- الحرق بالسجائر، الضرب على باطن القدمين، الركل الجماعي.
- الحرمان من النوم، والإضاءة المستمرة أو العتمة الكاملة.
- التهديد بالاغتصاب أو الاعتداء على أفراد الأسرة.
- الاستنطاق النفسي: عبر أساليب تتضمن العزل التام، وتكرار الأسئلة بلا نهاية.
📜 شهادات من الداخل: ذاكرة الألم التي لا تُنسى
كتب عبد اللطيف اللعبي في إحدى شهاداته:
“كنا نُساق إلى الداخل كما تُساق الخراف، ثم تبدأ طقوس الإذلال: صفعات، بصق، تعرية، ثم تبدأ الأسلاك في الرقص على أجسادنا.”
أما صلاح الوديع، فقال:
“كان درب مولاي الشريف مكانًا بلا زمن. لا نعرف الليل من النهار، ولا الساعة من الدقيقة. فقط الألم هو ما يجعلنا نحس بالوقت.”
في شهادة فاطمة الإفريقي:
“لم أكن أتخيل أن الإنسان قادر على هذا الكم من القسوة. كانوا لا يبحثون عن الحقيقة، بل عن الاستسلام الكامل.”
وتحكي إحدى المعتقلات في شهادة مجهولة:
“كان صوت المفاتيح في الممر يرعبنا أكثر من الصراخ، لأنه يعني أن أحدنا سيُسحب للعذاب.”
🧠 صمت الإعلام الرسمي: غياب الاعتراف وصناعة النسيان
رغم أن عددًا كبيرًا من السياسيين والحقوقيين مرّوا من هناك، لم يُذكر درب مولاي الشريف رسميًا في أي وسيلة إعلام مغربية حتى التسعينيات. ظلّ كأنه غير موجود. كانت الجدران صامتة، والشارع غافل، والعائلات تنتظر أخبارًا لا تأتي.
الصحافة الحزبية المستقلة حاولت التلميح إليه، بعبارات مثل “مركز سري في الدار البيضاء”، لكن الرقابة كانت صارمة. ولم يُسمح بأي تغطية صحفية حقيقية قبل وصول هيئة الإنصاف والمصالحة.
🧩 الذاكرة الثقافية: درب مولاي الشريف في الأدب والسينما
تأخّر ظهور المركز في الأدب المغربي، لكن منذ التسعينيات بدأ يظهر في شهادات ومذكرات:
- رواية “تلك العتمة الباهرة” للطاهر بنجلون، رغم أنها ركزت على تازمامارت، إلا أنها مهّدت لأدب السجون.
- “يوميات قلعة المنفى” لعبد القادر الشاوي.
- مذكرات أحمد المرزوقي، عبد اللطيف اللعبي، وآخرين.
في السينما، ظلّ درب مولاي الشريف غائبًا تقريبًا، وإن ظهرت إشارات غير مباشرة في أفلام وثائقية مثل “ذاكرة معتقلة”، و”عُكاشة، الزنزانة 9″، لكن لم يُنتج بعد أي فيلم درامي يروي ما حدث داخل أسواره.
🧭 شهادات نساء المعتقلين: الألم المضاعف
لم تكن معاناة درب مولاي الشريف مقتصرة على من دخله، بل طالت أسرهم:
- أمهات قضين سنوات في الانتظار أمام بوابة المركز دون أن يُسمح لهن برؤية أبنائهن.
- زوجات اضطررن للعمل في ظروف مذلة لإعالة الأطفال.
- أخوات تعرضن للمراقبة والتهديد داخل الأحياء.
تقول والدة أحد المعتقلين:
“كلما سمعت سيارة تقف، ظننت أن ابني عاد. وكلما دخل الليل، خفت أن يكون جسده في العراء.”
🧾 ما بعد الخروج: أجساد نجت، وأرواح محطمة
خرج بعض المعتقلين من درب مولاي الشريف بعد شهور أو سنوات. لكنهم لم يعودوا كما دخلوا. كانت أجسادهم منهكة، وأذهانهم مثقلة بالكوابيس. البعض فقد القدرة على النوم، البعض الآخر لم يتكلم عن تجربته أبدًا.
أحد الناجين قال:
“لم يكن أصعب ما عشته هو التعذيب، بل هو أنني خرجت إلى وطن لا يعرف ماذا حدث لي، ولا يجرؤ على السؤال.”
⚖️ هيئة الإنصاف والمصالحة: اعتراف بلا مساءلة
أدرجت الهيئة شهادات كثيرة لضحايا درب مولاي الشريف، وقدمت تعويضات مالية للبعض، لكن لم تُذكر أسماء الجلادين، ولم يُحوَّل المركز إلى موقع ذاكرة.
ما يزال المبنى قائماً، دون لافتة، دون متحف، دون اعتذار رسمي.
✅ خاتمة: لا ذاكرة بدون عدالة
درب مولاي الشريف ليس مجرد مبنى. إنه مرآة سوداء لمرحلة من الرعب المؤسساتي المنظم، حين تحوّل الخوف إلى أداة حكم، والصمت إلى سياسة دولة. لا يمكن لمجتمع أن يتقدم دون مواجهة ماضيه.
إن النسيان ليس مصالحة. والصفح لا يكون من دون اعتراف. وكرامة الضحايا لا تُستعاد بالتعويض المالي، بل بالمكاشفة، بالتعليم، وبأن نعلّم الأجيال القادمة أن ما حدث هنا… لا يجب أن يحدث مرة أخرى.
🔑 الكلمات المرتبطة: درب مولاي الشريف، الاعتقال السياسي، التعذيب في المغرب، سنوات الرصاص، وزارة الداخلية، إدريس البصري، عبد اللطيف اللعبي، صلاح الوديع، القمع في الدار البيضاء، الزنازين السرية، المخابرات المغربية، هيئة الإنصاف والمصالحة، شهادة فاطمة الإفريقي، حقوق الإنسان في المغرب، أدب السجون، شهادات نسائية، النسيان المؤسسي