تاريخ العلاقات بين الشرطة المغربية والمجتمع: من الحماية إلى الشراكة

منذ اللحظة التي رفرف فيها علم الاستقلال فوق سماء المغرب سنة 1956، بدأت البلاد في بناء مؤسساتها الوطنية، وكان من بين أبرزها جهاز الشرطة. غير أن العلاقة بين هذا الجهاز والمجتمع المغربي لم تكن دومًا على وتيرة واحدة. فقد تراوحت بين الثقة والخوف، بين الصرامة والتقارب، وبين الحماية والانتهاك. وفي هذا المقال، نحاول تتبع مسار هذه العلاقة المعقدة التي تعكس جزءًا من تحولات الدولة والمجتمع.

🇲🇦 من الاستعمار إلى السيادة: بداية عسيرة (1956–1970)

ورث المغرب عن الاستعمار الفرنسي جهازًا أمنيًا قائمًا على الردع والرقابة أكثر مما كان قائمًا على خدمة المواطن. الشرطة في تلك المرحلة كانت تُرى كامتداد للسلطة الأجنبية، قائمة على الهيمنة أكثر من الحماية. ومع الاستقلال، بدأت محاولات “مغربة” الجهاز، لكنها لم تكن سهلة.

في بدايات الاستقلال، كان عدد أفراد الشرطة قليلًا، والوسائل محدودة، والبنية التحتية الأمنية هشّة. رغم ذلك، سعت الدولة إلى بناء جهاز أمني وطني قادر على فرض القانون في مجتمع متنوع وسريع التحول، وكان من الطبيعي أن تُبنى العلاقة مع المواطن على أساس من الحذر والتوجس.

🔥 سنوات الرصاص: زمن الخوف والرقابة (1970–1999)

كانت العقود الممتدة من السبعينيات حتى نهاية التسعينيات، والمعروفة في الأدبيات التاريخية بـ”سنوات الجمر والرصاص”، من أكثر الفترات توترًا في علاقة الشرطة بالمجتمع. في هذه المرحلة، تحوّلت أجهزة الأمن، ومن ضمنها الشرطة، إلى أدوات قمع سياسي، حيث انتشرت الاعتقالات التعسفية، والمحاكمات الصورية، واختفى مئات النشطاء قسريًا.

الشرطة، بالنسبة للكثير من المغاربة آنذاك، لم تكن مؤسسة للحماية، بل كانت تُرى كرمز للتهديد. هذا التصور توغل في المخيال الشعبي، ووجد صداه في الأغاني الاحتجاجية، والشهادات الجماعية، والمذكرات.

🤝 بوادر الانفتاح والإصلاح: العهد الجديد (1999–2011)

مع تولي الملك محمد السادس العرش سنة 1999، بدأ المغرب صفحة جديدة في مقاربة العلاقة بين الدولة والمواطن. واحدة من أبرز علامات هذا التغيير كانت الإصلاحات الأمنية، ومحاولة إعادة بناء الثقة في جهاز الشرطة.

تم إنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وهيئة الإنصاف والمصالحة، التي اعترفت رسميًا بانتهاكات الماضي. كما أُطلقت سياسات لمحاربة الفساد داخل الجهاز الأمني، وتمت رقمنة عدد من الخدمات لتقريبها من المواطنين.

في هذه المرحلة، ظهرت مؤشرات أولى لتغيّر نظرة المواطن للشرطة. لم تعد فقط أداة للردع، بل بدأت تتحول إلى مؤسسة لها دور مجتمعي.

👮‍♂️ الشرطة المجتمعية: نموذج حديث لعلاقة جديدة (2011–اليوم)

ابتداءً من سنة 2011، ومع الحراك الشعبي الإقليمي، تسارعت وتيرة الإصلاحات داخل جهاز الأمن. تم تعزيز مفهوم “الشرطة المواطنة”، وظهرت مبادرات الشرطة المجتمعية التي تهدف إلى التقارب مع المواطن، والتدخل في القضايا الاجتماعية، وحماية الفئات الهشة.

انتشرت المبادرات التوعوية، وتم تعزيز حضور الشرطة في المدارس، كما تم تطوير قنوات التواصل الرقمي مع المواطنين، بما في ذلك استقبال الشكايات عبر الإنترنت.

🎥 صورة الشرطة في الإعلام والمجتمع

شكلت وسائل الإعلام، والتلفزيون بشكل خاص، وسيلة مؤثرة في إعادة تشكيل صورة الشرطة في ذهن المغاربة. ففي حين كانت صورة الشرطي مرتبطة في الماضي بالقسوة والجمود، بدأت المسلسلات الوطنية، والتقارير الصحفية، في السنوات الأخيرة، تعكس صورة أكثر إنسانية، لرجال ونساء يعملون تحت ضغط كبير، ويواجهون تحديات اجتماعية ومهنية معقدة.

كما لعبت شبكات التواصل الاجتماعي دورًا مزدوجًا، بين فضح التجاوزات، وتوثيق المبادرات الإنسانية لعناصر الشرطة، مما أسهم في تعميق النقاش العمومي حول علاقتها بالمجتمع.

📊 هل تغيرت العلاقة فعلاً؟ قراءة في المتغير والثابت

رغم كل التحولات التي عرفها المغرب، لا تزال العلاقة بين المواطن والشرطة محكومة بتوازن دقيق. فهناك مناطق ما زالت تسود فيها مشاعر الخوف أو الريبة، خاصة في الأحياء الهامشية أو أثناء التظاهرات. لكن بالمقابل، هناك تطورات حقيقية في الأداء، والتكوين، وطرق التدخل، تفرض إعادة النظر في الصور النمطية.

التاريخ لا يُمحى، لكن يمكن تجاوزه. والمطلوب اليوم هو ترسيخ ثقافة الثقة المتبادلة، وتغليب منطق الوقاية على الردع، والشراكة على التسلط.

✅ خاتمة: من أجل شرطة مواطنة بحق

إن استعراض علاقة الشرطة المغربية بالمجتمع هو استعراض لمسار المغرب نفسه في بناء دولة القانون. فهذه العلاقة لم تكن ساكنة، بل كانت مرآة للتحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشتها البلاد.

واليوم، تبقى مسؤولية تعزيز الثقة مسؤولية مشتركة: على الشرطة أن تخدم، وعلى المواطن أن يتعاون، وعلى الدولة أن تضمن العدالة والكرامة للجميع.

أضف تعليق