حين تتقاطع طرق النضال في لحظة حاسمة من تاريخ الشعوب، لا تعود الحدود السياسية سوى خطوط على ورق. وتتحول الجغرافيا إلى جسدٍ واحد، يتألم في موضع ويصرخ في آخر، لكنه لا يفقد أمله في الشفاء. هكذا كان المغرب، وتونس، والجزائر بعد الحرب الكبرى الثانية. ثلاث شعوب خرجت من زمن الرعب العالمي بوعي جديد: أن الاستعمار لم يكن قدرًا، وأن الحرية ليست أمنية، بل نتيجة نضال مشترك، وتضحيات تُبذل على أرض الآخرين كما على أرض الذات.
في المغرب، كان الوطنيون يعيشون واقعًا مركبًا. بلدهم لا يزال تحت الحماية، وثمة اتفاقيات ترسم له حدود الحركة، لكنه في عمق وعيه لم يكن منفصلًا عن جيرانه. كانوا يرون في معاناة الجزائريين امتدادًا لمعاناتهم، وفي قمع التونسيين مرآةً لما قد يحدث لهم. فكل طلقة فرنسية في الجزائر كانت تطرق باب الوعي المغربي، وكل اعتقال سياسي في تونس كان يدفع زعماء المغرب إلى رفع أصواتهم، لا من باب الإحسان، بل من باب الشراكة في الجرح.
ولم يكن الأمر عاطفة وحدها، بل كان إدراكًا سياسيًّا حادًّا بأن تحرر أحد الأطراف يعني تقوية الجميع، وأن ضعف جبهة من الجبهات هو ثغرة يدخل منها المستعمر إلى باقي الأجساد. لذلك، لم يتردد الوطنيون المغاربة، أفرادًا وجماعات، في التحرك سياسيًّا وإعلاميًّا وتنظيميًّا لدعم تونس والجزائر، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين بدأ العالم يعيد النظر في خرائطه، ويستعد، على مضض، لسماع صوت الشعوب.
تونس، التي كانت آنذاك تسير في مسار تفاوضي صعب، وجدت في الدعم المغربي سندًا أخلاقيًّا وسياسيًّا لا يُقدّر بثمن. تحركت النخب الوطنية في المغرب لتنظيم مؤتمرات، ولقاءات، وتقديم مذكرات رسمية إلى سلطات الحماية الفرنسية، تندد فيها بما يقع في تونس. ولم يكن ذلك مجرّد تعبئة شعبية، بل مواقف واضحة تصدر من زعامات لها وزنها، تخاطر أحيانًا باستقرارها الداخلي من أجل قضية لا تخصّها على الورق، لكنها تخصّها في الدم والوعي والمصير.
أما الجزائر، فكانت الجرح المفتوح الأكبر. الاستعمار هناك لم يكن إدارة ولا حماية، بل احتلالًا دمويًّا يُنكر على الجزائريين وجودهم، ويعاملهم كغرباء في وطنهم. وعندما اندلعت الثورة الجزائرية سنة 1954، لم يتردد الوطنيون المغاربة في التحرك على أكثر من صعيد. فتم تهريب السلاح، وفتح الممرات، وتم إنشاء الخلايا اللوجستية على الحدود، بل في قلب المدن المغربية، لدعم جيش التحرير الجزائري. لم تكن الأمور سهلة، ولم يكن ذلك يتم دون تضحيات. لكن الذي كان يغذي هذا الالتزام هو شعور أصيل بأن الحرية لا تُنجز بالبيانات، بل بالأفعال التي تُراكم على المدى الطويل، وتُضحّي بالصغائر من أجل المعنى الأكبر.
في تلك اللحظات، لم يكن هناك فصل بين “مغربي” و”جزائري” في الوعي الشعبي المقاوم. كثير من الشهداء المغاربة سقطوا على الأرض الجزائرية، والعكس صحيح. واختلطت الأسماء والدماء، كما تختلط مياه نهر واحد لا يعرف من أين ينبع بالضبط، لكنه يعرف إلى أين يتجه. وفي المساجد، كما في المقاهي، كما في سرّ المجالس، كان الناس يتحدثون عن “الاستقلال” لا بوصفه شأنًا محليًّا، بل كمعركة مشتركة، قد يكون ميدانها في الجزائر، لكن نتائجها ستنعكس على الرباط وفاس والدار البيضاء ومراكش.
ولأن السياسة لا تنفصل عن الجغرافيا، فإن قرب المغرب من الجزائر جعل دوره حاسمًا في الدعم اللوجستي للمجاهدين. وقد استُخدمت أراضي الجنوب المغربي ممرًّا للسلاح والتموين، وتم تأمين عبور المقاتلين الجرحى إلى مناطق آمنة لتلقي العلاج. وكان كل ذلك يتم في الخفاء، تحت أنف الإدارة الفرنسية، وأحيانًا بمواجهات مباشرة، راح ضحيتها مغاربة رفضوا أن يكونوا متواطئين بالصمت.
كما لعبت الصحافة الوطنية دورًا بالغ الأهمية. كانت الجرائد المغربية تتابع أخبار الجزائر لحظة بلحظة، وتنقل صور الفظائع، وتفضح الرواية الرسمية الفرنسية، وتُحرّض على التضامن، وتُصيغ وجدانًا شعبيًّا يُدرك أن القضية الجزائرية ليست ملفًا إخباريًّا، بل وجعًا أخلاقيًّا يمسّ كيان المغرب نفسه.
في الخارج، لم يقف الوطنيون المغاربة مكتوفي الأيدي. فقد تم التنسيق مع الحركات التونسية والجزائرية في المؤتمرات الدولية، وخاصة في القاهرة، حيث كان يُنظر إلى المغرب العربي ككلّ موحد، يضم ثلاث قضايا لا تنفصل. وكانت الوفود المشتركة تعرض قضاياها للعالم بلسان واحد، فتُفاجئ الصحفيين، وتُربك المستعمرين، وتُكسب التضامن من الدول الحديثة العهد بالاستقلال، ومن أصوات الضمير في أوروبا نفسها.
ولم تكن هذه الجهود خالية من الثمن. فقد دفعت بعض الشخصيات المغربية ثمن دعمها العلني لتونس والجزائر، بالإقصاء، أو التضييق، أو حتى التهديد بالاغتيال. لكن أحدًا لم يتراجع. لأن المعركة، في عيونهم، لم تكن تخصّ وطنًا محددًا، بل كانت معركة ضد منطق الاستعمار ذاته، ضد الفكرة التي تجعل من الاحتلال مشروعًا أخلاقيًّا، وضد الغطرسة التي تنظر إلى شعوب الجنوب كمن لا حق له في تقرير مصيره.
وكان للمغاربة دور خاص في تقديم الملاذ الآمن لبعض القادة الجزائريين الهاربين من المتابعة. كما وفّروا غطاءً اجتماعيًّا لهم، وساعدوهم في التنقل والتخطيط. لم يكن الأمر مرتبطًا بالحكومات فقط، بل بالشعب، بالناس العاديين الذين كانوا على وعي غريب بحجم اللحظة. كان رجل البادية البسيط يعرف أن الذي يخفيه في خيمته ليس غريبًا، بل أخ له في المعركة.
ومع اقتراب لحظة استقلال المغرب سنة 1956، ازداد الدور تعقيدًا. فالدولة الحديثة الولادة لم تكن مستقرة بعد، وكان عليها أن تتعامل مع المطالب الفرنسية، ومع ملفات الداخل، ومع التوازنات الدولية. ومع ذلك، استمر الدعم. بل إن المغرب الرسمي، بعد الاستقلال، خصّص موارد فعلية لدعم الثورة الجزائرية، وفتح باب التواصل الدبلوماسي والإعلامي للتأثير على الرأي العام العالمي.
وفي الوقت ذاته، لم يُغفل الوطنيون المغاربة القضية التونسية، حيث تواصل التنسيق، وجرى تبادل التجارب، بل والمستشارين في بعض اللحظات، لتسهيل عملية الانتقال من النضال إلى بناء الدولة. لأنهم كانوا يعرفون أن المعركة لا تنتهي بطرد الاستعمار، بل تبدأ من هناك: معركة بناء الإنسان الحر، والمؤسسات، والمجتمع الذي لا يعيد إنتاج التبعية بوجه محلي.
وحين نالت تونس استقلالها، كان في الأمر نَفَس مغربي. وحين تحقق نصر الجزائر بعد نهر طويل من الدم، كانت بعض دماء ذلك النهر من مغاربة لم يطالبوا بأوسمة، بل آمنوا بأنهم كانوا يؤدون واجبًا صامتًا نحو تاريخ مشترك، كان يجب أن يُكتب بأكثر من يد، وبأكثر من تضحية.
وحين ننظر اليوم إلى تلك اللحظة من الزمن، لا نراها فقط كحدث تاريخي، بل كمرآة تُظهر لنا ما معنى أن تكون “وطنيًّا” لا بالانغلاق، بل بالانفتاح. أن تدرك أن قوة وطنك لا تكون في عزله، بل في التحامه بالآخر الذي يشبهه في الحلم والألم والمستقبل.