🧪 1. مقدمة: سمّ في المائدة المغربية
في ربيع عام 1959، وبينما كان المغرب يعيش سنواته الأولى بعد الاستقلال، استيقظت البلاد على فاجعة لم تكن في الحسبان. لم تكن زلزالاً، ولا حرباً، ولا كارثة طبيعية، بل كانت مأساة صامتة، تسللت إلى أطباق آلاف الأسر المغربية على شكل زيت طهي مغشوش. في البداية، لم ينتبه أحد، ثم توالت الحالات… رجال ونساء وأطفال يصابون بالشلل فجأة، يتألمون بصمت، ويموتون ببطء.
كارثة الزيوت المسمومة، كما سيُطلق عليها لاحقًا، كانت جريمة مركبة، تقاطع فيها الغش التجاري، والإهمال الإداري، والعجز الطبي، لتنتج واحدة من أبشع الفصول في تاريخ الصحة العمومية بالمغرب. لم تكن مجرد قضية استهلاكية، بل زلزالًا اجتماعياً وصحياً وأخلاقياً خلّف آلاف الضحايا، وأعاد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة، وبين الثقة والغذاء، وبين الصمت والمحاسبة.
في هذا المقال، نعيد فتح هذا الجرح القديم، لا من باب التأريخ فقط، بل كمحاولة لفهم كيف ولماذا وقعت الكارثة، وما الذي تعلّمه المغاربة منها، أو لم يتعلموه.
🕰️ 2. السياق الزمني والسياسي: المغرب في نهاية الخمسينيات
حين وقعت الكارثة في عام 1959، كان المغرب قد خرج لتوّه من مرحلة الاستعمار الفرنسي، معلنًا استقلاله السياسي سنة 1956. لكن هذا الاستقلال لم يكن نهاية المعاناة، بل بداية تحديات جسيمة. فالدولة الجديدة، التي كانت لا تزال تُرَسِّخ مؤسساتها الإدارية والقانونية، وجدت نفسها عاجزة عن مواكبة الحاجيات المتزايدة لمجتمع يتغيّر بسرعة، وسط شح في الإمكانيات، وتداخل المصالح، وتراكمات استعمارية عميقة.
كانت البنية التحتية الصحية هشة للغاية، خصوصًا في الأحياء الشعبية والقرى، بينما ظل النظام الغذائي خاضعًا لرقابة محدودة، إن لم تكن غائبة. لم تكن هناك منظومة صارمة لمراقبة المنتجات المستوردة، ولا لوائح تنظيمية تحكم عمليات البيع بالجملة أو التجزئة. وغالبًا ما كانت الأسواق المغربية مفتوحة لكل من يملك بضاعة، بصرف النظر عن مصدرها أو نوعيتها.
في هذا المناخ المضطرب سياسيًا واجتماعيًا، وبينما كانت الطبقات الفقيرة تكافح من أجل لقمة العيش، تسربت الزيوت السامة إلى موائد المغاربة، دون أن يثير ذلك أدنى شكّ، لا من طرف الباعة، ولا من السلطات، ولا حتى من المستهلكين… حتى بدأ الجحيم.
كانت البلاد وقتها على أعتاب صراعات داخلية بين القصر الملكي والقوى الحزبية، ووسط غليان اجتماعي واقتصادي لا يسمح بترف التركيز على مراقبة الغذاء. وكان هذا التشتت المؤسسي أحد الأسباب العميقة التي سمحت للكارثة بأن تحدث، وتتمدد، وتحصد أرواحًا بريئة دون مقاومة.
🛢️ 3. بداية الكارثة: الزيوت المسمومة تدخل البيوت
لم تكن الكارثة نتيجة حادث مفاجئ أو تلوث عرضي، بل كانت نتاج عملية منظمة لترويج زيت صناعي سام على أنه صالح للأكل. الزيوت المعنية كانت تحتوي على مادة قاتلة تُعرف علمياً باسم “تري أورثو كريسيل فوسفات” (TOCP)، وهي مركب كيميائي يُستخدم عادة في الصناعات التقنية مثل الزيوت المخصصة للمحركات أو العوازل الكهربائية، وليس في التغذية البشرية بأي شكل من الأشكال.
في بدايات 1959، دخلت إلى المغرب شحنات كبيرة من هذا الزيت عبر قنوات استيراد غير شفافة، وتم توزيعها بشكل أساسي في المناطق الفقيرة خصوصاً سلا، الرباط، تمارة، فاس، وخنيفرة، عبر تجار صغار كانوا يبيعونها في الأسواق الشعبية بثمن زهيد مقارنة بالزيوت النباتية التقليدية. جذب السعر الرخيص آلاف الأسر التي وجدت فيه بديلاً مغريًا في زمن كانت فيه المعيشة صعبة والغلاء خانقًا.
لكن لم يعلم هؤلاء أن ما يشترونه لم يكن زيتًا للطهي، بل سائلًا قاتلًا يتغلغل في الأعصاب ويدمّر الجهاز العصبي المركزي بشكل تدريجي. الأسوأ أن الزيت كان عديم الرائحة تقريبًا، بل ومشابهًا من حيث المظهر لزيت الطعام العادي، ما جعل التمييز بينه وبين الزيوت الصالحة شبه مستحيل للمستهلك البسيط.
وتشير بعض التقارير إلى أن المصدر المباشر كان شركة أمريكية باعت الزيت الصناعي على أنه زيت صالح للاستهلاك، في صفقة غامضة لم تمر عبر قنوات المراقبة المعروفة. وبينما تم تمرير هذه الزيوت عبر وكلاء محليين، غابت أي رقابة صحية أو مختبرية عن العملية، ما سهّل انتشار الزيت السام في الأسواق دون أدنى مقاومة أو شكوك.
وبذلك، دخل السمّ إلى البيوت، مزج مع الكسكس، القلي، والطواجن، وتحول المطبخ المغربي إلى ساحة صامتة للإبادة… دون أن يدري أحد أن الجريمة قد بدأت.
☠️ 4. الأعراض القاتلة: حين بدأ السمّ يسري في الأجساد
لم تمر أيام كثيرة حتى بدأت الأعراض تظهر، بشكل مباغت، وعلى نطاق واسع. رجال ونساء وأطفال أصحاء ينهارون فجأة: ثقل في الأطراف، فقدان السيطرة على العضلات، وخدرٍ يتصاعد ببطء نحو الشلل الكامل. لم يكن الأمر مجرد تسمم غذائي تقليدي، بل بدا وكأن هناك شيئًا خفيًا يُهاجم الجهاز العصبي للناس بلا رحمة.
في البداية، أصيب الأطباء بالحيرة. لم يكن هناك تفسير واضح. لم تُسجَّل حالات إسهال أو حمى أو نزيف كما في حالات التسمم الغذائي العادية. بل كانت الحالات أقرب إلى ما يُشبه الشلل الدماغي أو التصلب العصبي المفاجئ. ازدادت الحالات بسرعة، وتحول الأمر إلى ما يُشبه الوباء الصامت، لكنه ليس معديًا… بل قاتل عبر الغذاء.
الضحايا كانوا يتقاطرون على المستشفيات العمومية التي لم تكن مستعدة لا من حيث المعدات ولا الكوادر. وكان الطاقم الطبي في أغلب الحالات عاجزًا عن تقديم تفسير أو علاج. بعض الضحايا كانوا يتكلمون، يتحركون قليلاً، ثم تتدهور حالتهم فجأة فينهارون كليًا. آخرون بقوا مشلولين مدى الحياة، ومنهم من توفي في أقل من أسبوع.
وربما كان المشهد الأكثر قسوة هو عجز الأطباء عن إنقاذ الأطفال الصغار، الذين أصيبوا بتيبّس كامل في الأجساد، دون أن يفهم آباؤهم كيف ولماذا. وازدادت الكارثة ألمًا حين بدأت تنتشر الأخبار عن وجود نمط متشابه بين الضحايا: كلهم تناولوا “زيتًا معينًا”، اشتروه بثمن بخس من باعة متنقلين أو أسواق شعبية.
الصدمة الأكبر لم تكن فقط في عدد المصابين، بل في الطابع المُزمن والدائم للأعراض: فحتى من نجا من الموت، ظل مصابًا بإعاقات عصبية لا علاج لها آنذاك، مما خلق جيلاً كاملاً من المعاقين الفقراء، الذين لم يكن لهم نصير ولا علاج… سوى الانتظار والموت البطيء.
🏥 5. استجابة النظام الصحي: ارتباك وعجز
مع تفاقم الحالات وانتشار الذعر، وجدت السلطات الصحية المغربية نفسها في مواجهة أزمة صحية غير مسبوقة، لم تكن لديها لا الوسائل التقنية ولا الكوادر المؤهلة للتعامل معها. فالمغرب، الخارج لتوه من نير الاستعمار، لم يكن يتوفر سوى على عدد محدود من المستشفيات، ومعظمها متركز في المدن الكبرى، بينما المناطق المتضررة شملت أطرافًا مهمشة وفقيرة مثل سلا وخنيفرة وتمارة.
في مستشفى ابن سينا بالرباط، كما في مستشفى الغساني بفاس، بدأت المشاهد المأساوية تتكرر: طوابير من المرضى، أسِرّة مكتظة، نقص فادح في الأدوية، ووجوه الأطباء شاحبة من الصدمة والعجز. بعض الفرق الطبية حاولت جهدها للربط بين الحالات، وقادت تحاليل أولية إلى الاشتباه في الغذاء. لكن لم يكن هناك مختبر وطني متخصص يمكنه تحليل الزيوت بدقة أو تشخيص التأثيرات العصبية المعقدة التي ظهرت على المرضى.
الحكومة المغربية ترددت في البداية في الاعتراف بحجم الكارثة. بعض المسؤولين تحدثوا عن حالات “غير معروفة المصدر”، وآخرون ربطوا ذلك بـ”ظواهر غريبة” أو “أمراض مستوردة”، في مشهد عكس الارتباك الإداري العميق. ونتيجة هذا التأخر في التشخيص الرسمي، استمرت الزيوت المسمومة في التداول، وانتشر السمّ لأسابيع إضافية قبل أن تتدخل السلطات.
حين بدأت ملامح الكارثة تتضح، تم استدعاء فرق دولية، بما فيها بعثة طبية أمريكية، للمساعدة في التحليل، وجاءت الصدمة: مادة TOCP هي المسؤولة، وهي مادة معروفة في الولايات المتحدة بأنها سامة للأعصاب، وتُستخدم فقط في الأغراض الصناعية. هذا الاكتشاف كان بمثابة انكشاف الفضيحة على المستوى الدولي.
أما الدولة، فقد بدأت بشكل متأخر في سحب الزيوت من الأسواق، ومطالبة المواطنين بالتخلص مما لديهم، لكن الآوان كان قد فات… إذ كانت آلاف القوارير قد استُهلكت، وآلاف الأجساد قد دُمّرت بالفعل.
🧬 6. التحقيقات: من أين جاء السم؟
بعد أن انكشفت فظاعة الكارثة، بدأ سباق محموم بين الدولة المغربية والجهات الصحية الدولية لكشف ملابسات القضية، وتحديد المصدر الحقيقي للزيوت المسمومة. كان السؤال الملحّ: من أدخل هذه الزيوت؟ ومن سمح بتوزيعها؟ وكيف تسرب هذا الكمّ من السمّ إلى الأسواق دون أن تُطلق صافرة إنذار واحدة؟
التحاليل المخبرية التي شارك فيها خبراء مغاربة وأجانب، أكدت أن الزيوت تحتوي على مادة تري أورثو كريسيل فوسفات (TOCP)، وهي مركب كيماوي يُستخدم في التشحيم الصناعي والعوازل، ويُسبب تلفًا دائمًا في الأعصاب، خاصة مرض الاعتلال العصبي المحيطي الحاد. وهو مرض يجعل المريض غير قادر على التحكم بأطرافه، وغالبًا ما يُفضي إلى الشلل التام أو الموت البطيء.
المصدر المباشر تَبيّن أنه شحنة زيوت مصدرها شركة أمريكية عبر وسيط أوروبي، تم تسويقها في المغرب على أنها زيوت غذائية. كانت هذه الشحنة أصلاً مخصصة للاستعمال الصناعي، لكن تم إعادة تعبئتها في قنينات موجهة للاستهلاك المنزلي، وتوزيعها بواسطة تجار محليين عديمي الخبرة أو منعدمي الضمير.
التحقيقات كشفت أن عملية البيع تمت بأسعار مغرية جدًا، وأن الوسطاء المحليين لم يطلبوا أي شهادة تحليل أو تصريح جمركي، خصوصًا أن التجارة كانت تجري في ظل فوضى الاستيراد والتوزيع في بلد لا تزال مؤسساته التنظيمية في طور التشكل بعد الاستقلال. وكانت الرقابة الجمركية نفسها، في العديد من الحالات، غائبة أو غير فعالة، ما فتح الباب لمرور منتجات مريبة وخطيرة.
ورغم الأدلة التي تم تجميعها، لم تُحمّل أي جهة أجنبية مسؤولية مباشرة. وتم الاكتفاء بمحاكمة بعض التجار المغاربة الذين تورطوا في توزيع الزيوت، بينما لم تُلاحق الشركة المُصنّعة أو الوسطاء الدوليون، ما طرح تساؤلات حادة حول العدالة الدولية والتفاوت في المحاسبة حين يكون الضحايا من دول الجنوب.
لقد كشفت التحقيقات أن الكارثة لم تكن نتيجة خطأ فردي، بل ثمرة سلسلة طويلة من الإهمال، التهاون، والتواطؤ – من المصنع إلى الموزّع، ومن المستورد إلى البائع، في غياب دولة قادرة على حماية مواطنيها.
⚖️ 7. المحاكمات والمسؤوليات: هل طُبّق العدل؟
مع انكشاف أبعاد الكارثة، وتزايد الضغط الشعبي والإعلامي، اضطرت الدولة المغربية إلى فتح تحقيقات قضائية ومحاكمة عدد من المسؤولين المحليين عن توزيع الزيوت المسمومة. وبدأت أولى جلسات المحاكمة في أجواء مشحونة بالغضب، في محاولة لطمأنة الرأي العام وامتصاص موجة الاحتجاجات التي بدأت تتصاعد في المدن المتضررة.
النيابة العامة وجّهت التهم إلى مجموعة من التجار والموزعين المحليين، بينهم مستوردون وأصحاب مخازن شاركوا في إعادة تعبئة الزيوت وبيعها، بتهم تتراوح بين “الغش في البضائع” و”الإضرار بصحة المواطنين”، بل وحتى “القتل غير العمد” في بعض الملفات. لكن رغم بشاعة الجريمة، لم تصدر أحكامٌ مشددة بحق أغلب المتهمين، بل صدرت أحكام مخففة نسبيًا أثارت غضب أسر الضحايا والرأي العام.
أما عن الشركة الأجنبية التي أنتجت الزيت، أو الجهات الوسيطة التي سهلت دخوله إلى المغرب، فلم تُفتح ضدها أي متابعة قضائية فعلية، لا في المحاكم المغربية ولا على المستوى الدولي. وذهبت أصوات الناجين والمجتمع المدني أدراج الرياح، وسط صمت رسمي وغياب آليات للمحاسبة العابرة للحدود في تلك الفترة.
الصحف الوطنية، ومنها جريدة “العَلَم” و”التحرير”، سلطت الضوء بقوة على غياب الشفافية وعلى ما اعتُبر حينها تواطؤًا صامتًا بين كبار المسؤولين وبعض رجال المال. وظهرت دعوات لتشكيل لجنة برلمانية للتحقيق في تقصير الدولة، لكن هذه الدعوات لم تجد آذانًا صاغية.
الكثير من الناجين وأسر الضحايا شعروا أن العدالة لم تأخذ مجراها. لم يتم تجريم الإهمال المؤسسي ولا تحميل الدولة مسؤوليتها الرقابية، ولم تُوفَّر تعويضات مناسبة أو دائمة للمصابين. وغاب الاعتراف الرسمي الشامل، حتى على مستوى التأريخ المدرسي أو الإعلام العمومي.
لقد أعادت كارثة الزيوت المسمومة تعريف معنى العدالة في المغرب المستقل حديثًا، وأظهرت بوضوح أن غياب الشفافية والرقابة يمكن أن يقتل، وأن الإفلات من العقاب يُمكن أن يتحوّل إلى قاعدة لا استثناء.
👪 8. الضحايا: آلاف المعاقين… ومآسي بلا نهاية
عندما هدأ الضجيج الإعلامي، وبردت قاعات المحاكم، بقي الضحايا وحدهم في الساحة. لم تكن كارثة الزيوت المسمومة مجرد حادث عابر خلّف وفيات وانتهى، بل كانت جريمة جماعية أفرزت جرحًا عميقًا في جسد المجتمع المغربي، ما زالت آثاره باقية في ذاكرة العائلات وملامح الأحياء الشعبية.
تُقدّر بعض المصادر عدد المصابين بما يفوق 10,000 شخص، أغلبهم من الطبقات الفقيرة التي لا تمتلك تأمينًا صحيًا ولا قدرة على العلاج الخاص. من هؤلاء، توفي المئات في الأيام والأسابيع الأولى، بينما عاش الآلاف الآخرين بـ إعاقات مزمنة دائمة، تراوحت بين الشلل النصفي أو الكلي، وفقدان القدرة على المشي، ومشاكل عصبية معقدة.
الضحايا لم يكونوا مجرد أرقام. كانوا أطفالاً توقفوا عن اللعب فجأة، شبابًا تعطلت أحلامهم في الدراسة والعمل، نساءً فقدن القدرة على الاعتناء بأطفالهن، وشيوخًا تقوّست أجسادهم قبل أوانها. بعض الأسر أصيب فيها أكثر من فرد، مما جعل الوضع أكثر مأساوية، حيث وُجدت عائلات بكاملها تعيش على كراسي متحركة أو طريحة الفراش.
في غياب رعاية خاصة أو مخصصات اجتماعية دائمة، تحوّل المصابون إلى عبء ثقيل على أسرهم، وواجهوا نظرة مجتمعية قاسية، إذ لم يكن الإعاقة آنذاك موضوعًا مفهومًا أو مقبولًا اجتماعيًا. بعض الضحايا تم إخفاؤهم عن الأنظار، والبعض الآخر عاش منسيًا في زوايا البيوت، بلا دعم نفسي، ولا علاج فيزيائي، ولا حتى كرامة إنسانية.
رغم بعض المبادرات الخجولة التي أطلقتها جمعيات محلية وأطباء متطوعون، إلا أن الدولة لم تضع سياسة واضحة لإعادة إدماج المصابين، ولم تنشئ مراكز إعادة تأهيل أو مؤسسات تعليمية خاصة بهم. ومضت السنوات، وتحوّل كثير من الناجين إلى متسولين أو عاطلين عن العمل، يعيشون على الهامش، كما لو أن المجتمع نفسه قرر نسيانهم.
القصص الإنسانية المؤلمة التي خرجت لاحقًا من بين جدران البيوت كانت تعبيرًا حيًا عن الفشل الجماعي في حماية الإنسان المغربي، ثم في مواساته بعد الكارثة. وربما يكون الأسوأ من السمّ الذي أكل أعصابهم، هو التجاهل الذي أكل كرامتهم.
💔 9. آثار نفسية واجتماعية طويلة الأمد
لم تكن كارثة الزيوت المسمومة مجرد أزمة صحية عابرة، بل كانت هزة نفسية واجتماعية عميقة أحدثت شرخًا في ثقة المغاربة بالدولة، وبالسوق، وبالغذاء نفسه. إذ فجأة، أصبح المطبخ المغربي، مركز الدفء والاطمئنان، مصدر خوف وريبة. ولم يعد الزيت – ذاك المكون البسيط في كل وجبة – يُسكب على الأكل كما كان، بل بنظرة شكّ وتوجّس.
في البيوت، تغيرت العادات الغذائية. بعض الأسر، خاصة في المناطق المتضررة، هجرت الزيوت التجارية لسنوات، مفضّلة السمن البلدي أو زيت الزيتون الذي يتم استخراجه محليًا ويُعرف مصدره. وبدأ الوعي الشعبي بأهمية مصدر الطعام يتشكل، لا عن طريق حملات الدولة، بل عن طريق الخوف المتوارث من فاجعة السمّ.
أما في المجتمع، فقد ولّدت الكارثة طبقة كاملة من المنسيين: مشلولين، فاقدي الحركة، وأحيانًا فاقدي القدرة على التعبير، عاشوا في الظلّ، دون اعتراف اجتماعي أو تغطية إعلامية، وكأنهم بقايا زمن يُراد طمسه. كثير منهم لم يتزوج، لم يشتغل، ولم يغادر عتبة البيت. وبعضهم ورث الفقر والمعاناة لأبنائه، في دوامة من التهميش الصامت.
على المستوى النفسي، عاش الناجون عقدة الذنب والخذلان. بعضهم لام نفسه لأنه اشترى الزيت، والبعض الآخر دخل في حالات اكتئاب حاد بسبب شعوره بأنه عبء على أسرته. ولم تُقدَّم لهم أي رعاية نفسية، بل تُركوا يواجهون جراحهم بمفردهم، في صمت يشبه المقبرة.
أما الدولة، فقد أحاطت الكارثة بجدار من الصمت. لم تُنظَّم حملات توعوية شاملة، لم تُدرَج القصة في الكتب المدرسية، ولم تُخصَّص برامج تلفزية لاستعادة الذاكرة. بدا وكأن هناك إرادة سياسية لإسقاط الحدث من الوعي الجماعي، وكأن الزمن وحده كفيل بمحو الألم… لكن الألم لا يُمحى.
لقد علّمت الزيوت المسمومة المغاربة أن ثمن الغفلة قد يكون الحياة، وأن الثقة دون رقابة قد تقتل. وتركت وراءها جرحًا أخلاقيًا لا يلتئم، لا لأنه عميق فقط، بل لأن أحدًا لم يحاول مداواته.
📰 10. التغطية الإعلامية: حين صرخ المغاربة في الصحف
رغم محاولات التعتيم الأولية من طرف بعض الجهات الرسمية، سرعان ما انتقل الخبر إلى صفحات الجرائد، وبدأت الصحافة الوطنية تلعب دور المنبّه والناقد والغاضب. كانت جريدة “العَلَم” لسان حزب الاستقلال، من أوائل من دقّ ناقوس الخطر، فنشرت تقارير صادمة عن عدد الضحايا، وأجرت مقابلات مع أطباء وشهود عيان. المقالات كانت تحمل عناوين مؤلمة مثل: “الزيت القاتل ينتشر في الأسواق”، و**”من يُحاسب من؟”**.
كما دخلت صحف أخرى مثل “التحرير” و**”لوبينيون”** على خط الأزمة، وسلطت الضوء على الارتباك الحكومي، وطرحت أسئلة جريئة عن الجهة المستفيدة من إدخال الزيت السام، ولماذا لم يتم التحرك مبكرًا رغم تزايد البلاغات عن الإصابات؟ وكانت تلك اللحظة من اللحظات النادرة التي اجتمع فيها قلم الصحافة والمصلحة الشعبية ضد الصمت الرسمي.
الصور التي التُقطت آنذاك، والتي نُشرت في بعض الأعداد الاستثنائية، كانت تُظهر مرضى على كراسي مهترئة في أروقة المستشفيات، وأطباء يُكابدون وسط فوضى علاجية، وأطفالًا شُلّت أطرافهم، يحدّقون في الكاميرا دون فهم لما أصابهم. هذه الصور خلّدت الألم، ورفعت منسوب الوعي بخطورة ما حدث.
في الوقت ذاته، لعب الإعلام دورًا في الضغط الشعبي، حيث طالب العديد من الكُتّاب والناشطين، عبر أعمدة الرأي، بإجراء محاكمات شفافة، ومحاسبة من تسببوا في الكارثة، وتعويض المتضررين. كما بدأت تبرز نواة ما سيُعرف لاحقًا بـ”المجتمع المدني”؛ حيث تأسست أولى الجمعيات التي طالبت بالاعتراف القانوني بحقوق الضحايا.
لكن رغم كل هذا الزخم، بقيت السلطة الإعلامية محدودة التأثير على القرار السياسي، فقد توقفت المتابعات الصحفية تدريجيًا، وعاد الصمت يخيم على الحادثة مع مرور الوقت، خصوصًا بعد أن لم تتحول المطالب إلى حراك منظم، أو ملفات مفتوحة داخل البرلمان.
كانت كارثة الزيوت المسمومة أيضًا اختبارًا مبكرًا لحرية الصحافة في المغرب المستقل. اختبار أظهر قدرتها على مقاومة الإملاءات، لكنه كشف أيضًا حدودها في التأثير حين تواجه جدار الدولة.
🧩 11. في ذاكرة الوطن: الزيوت المسمومة كجرحٍ لا يندمل
رغم أن أكثر من ستة عقود مرّت على الكارثة، إلا أن الزيوت المسمومة لم تغادر الذاكرة الشعبية المغربية، خصوصًا في الأحياء التي دفعت الثمن الأكبر. هناك، حيث ما زال بعض الضحايا أحياءً على كراسيهم المتحركة، يُروى الحدث من جيل إلى جيل، ليس كقصة تاريخية، بل كوجع يومي، كظلٍّ يرافق العائلات التي عاشت الموت وهي تنظر في عيون أحبائها.
في المقابل، وعلى المستوى الرسمي، لم تحتفظ الدولة بهذه الكارثة في أرشيفها الرمزي. لم تُخلَّد في يوم وطني للصحة أو لحماية المستهلك، ولم تُدرج في المناهج التعليمية، ولا في ذاكرة الإعلام العمومي. وكأن الجرح الذي أصاب آلاف المغاربة يُراد له أن يظل مدفونًا، بلا شاهد ولا نُصب ولا تذكار.
ورغم ذلك، بدأت بعض المبادرات الفردية والثقافية تُعيد إحياء الحادثة، خاصة في العقود الأخيرة. فقد ظهرت روايات وأفلام وثائقية وكتابات أكاديمية تحاول سبر أغوار الحدث، مثل بعض أعمال الباحثين في التاريخ الاجتماعي، أو شهادات كتبها صحفيون تقاعدوا بعد أن عايشوا الحدث. واحدة من أشهر هذه الوثائق كانت شهادة أحد الضحايا الذي كتب:
“كنا نأكل الزيت كي نعيش… فإذا بنا نأكله لنسقط موتى ونحن أحياء.”
كما بدأ بعض الفنانين التشكيليين يرمزون للكارثة في أعمالهم: زجاجات زيت قاتمة، عيون باكية، كراسٍ متحركة في الفراغ، في تعبيرات ترصد غياب الدولة عن جراح مواطنيها. ومع بروز وسائل التواصل الاجتماعي، عاد الحديث بين الحين والآخر عن الكارثة، خصوصًا عندما يُثار موضوع السلامة الغذائية أو الأدوية الفاسدة.
لكن السؤال المؤلم يبقى:
لماذا لم تتحول الكارثة إلى درس مؤسس في الضمير الوطني؟
أهو الإهمال؟ أم الإحراج السياسي؟ أم أن الذاكرة الجمعية لا تحتمل كل هذا الكم من الألم؟
مهما يكن الجواب، فإن الزيوت المسمومة ظلت علامة سوداء محفورة في لاوعي أمة، ودليلًا صامتًا على ما يمكن أن يحدث حين يتواطأ الجشع مع الغفلة، وحين لا يُحاسَب من يتسبب في الألم.
📚 12. دروس من الكارثة: هل استفاد المغرب؟
حين تهدأ الكوارث، يُقال إن الشعوب تتعلم منها وتبني أنظمتها الجديدة على أنقاض أخطائها. لكن في حالة الزيوت المسمومة، يظل هذا السؤال مطروحًا بمرارة: هل استفاد المغرب فعلاً من هذه الكارثة الصحية الكبرى؟ وهل بُنيت منظومة وقائية تحمي المواطنين من تكرار مأساة مماثلة؟
من الناحية التقنية، بدأت السلطات بعد الكارثة في إصلاح تدريجي لمنظومة المراقبة الصحية، حيث تم إنشاء نواة أولى لما سيصبح لاحقًا أجهزة مراقبة جودة الأغذية، مثل المختبر الوطني لتحليل المواد الغذائية، ومكاتب المراقبة الحدودية. كما تم فرض تشريعات أكثر صرامة على استيراد وتوزيع الزيوت الغذائية، ومنع بيع الزيوت الصناعية إلا بشروط مشددة.
لكن رغم هذه التطورات، ظلت البنية التنظيمية ضعيفة لعقود، تخترقها الزبونية، قلة الكفاءات، وغياب التنسيق بين الوزارات. فالعديد من حالات الغش التي سُجلت في سنوات لاحقة – من مواد غذائية فاسدة إلى أدوية مغشوشة – أظهرت أن الحصانة التامة لم تتحقق أبدًا، وأن الكارثة لم تُحول إلى “عبرة بنيوية”، بل إلى جراح متفرقة تُعاد تحت أسماء وأشكال جديدة.
على مستوى الوعي الشعبي، يمكن القول إن الكارثة أسست لنوع من الحذر الغذائي في المجتمع المغربي، خاصة في الأوساط الفقيرة. أصبح الناس أكثر تشكيكًا في المنتجات الرخيصة، وأكثر تفضيلًا للمنتوج المحلي أو المعروف المصدر. لكن هذا الحذر لم يُواكبه بالضرورة تعليم غذائي ممنهج، ما جعله حذرًا عاطفيًا لا مؤسسيًا.
أما على مستوى العدالة، فلم تُفتح ملفات تعويضات شاملة، ولا تم سن قانون خاص بضحايا الكوارث الصحية، رغم أن مثل هذه القوانين موجودة في بلدان شهدت أزمات مشابهة. وظل الضحايا رهائن الزمن، وأجسادهم شاهدًا على نظام لم يُحاسِب نفسه.
الخلاصة المؤلمة أن المغرب لم يستخلص الدروس كاملة من كارثة الزيوت المسمومة. فما حدث لم يُدوَّن كما يجب، ولم يُحوَّل إلى مرجع وطني في الحوكمة الغذائية أو في تدبير المخاطر، بل بقي حدثًا شبحًا يطارد الذاكرة، أكثر مما ينير المستقبل.
🧭 13. شهادات من الناجين وعائلات الضحايا
لا شيء أكثر صدقًا من صوت الضحية، ولا شيء أبلغ من شهادة عاشها الجسد قبل اللسان. في كارثة الزيوت المسمومة، ظلت القصص الفردية للناجين وعائلاتهم بمثابة مرآة دامعة لوجعٍ جماعي صامت. شهادات تقطر ألماً، وتفتح فجوات واسعة في قلب الضمير الوطني.
في إحدى المقابلات التي أُجريت سنوات بعد الكارثة، قال أحد الضحايا من سلا، وكان وقتها في الثلاثين من عمره:
“أكلت زيتًا مع الخبز، نمت، ثم استيقظت فلم أعد أحس بساقي. ظننت أني حلمت… حتى مرّت ثلاثون سنة وأنا على كرسي لا يتحرك.”
كان ذلك الشاب قد فقد عمله كعامل في البناء، وخسر زواجه، وعاش طيلة حياته في غرفة صغيرة تعتني به أمه العجوز، دون أن يتلقى يومًا واحدًا من العلاج الفيزيائي أو الدعم النفسي.
امرأة أخرى، من فاس، روت بحزن أنها فقدت طفلين صغيرين خلال أسبوع واحد. كانا يعانيان من تيبّس كامل في الأطراف، ثم توقف التنفس. الأطباء لم يعرفوا السبب، إلى أن وصلت أخبار الكارثة. لم تحصل على أي تعويض، ولم تُسأل يومًا عن تفاصيل مأساتها، لكنها قالت:
“أصبح الخبز مرًا بعد ذلك، لم أعد أضع زيتًا في طعامي حتى اليوم.”
في تمارة، ما زال أحد المعاقين الناجين يعيش على عربة حديدية صنعها له جاره في السبعينات. لم يدخل مدرسة قط، ولم يُدرج اسمه في أي سجل تعويضي. يبيع أوراق اليانصيب بجوار السوق، ويقول بابتسامة حزينة:
“نحن الزيت الذي لم يُمسح من على الأرض، فقط جفّ.”
أما عائلات الضحايا، فقد واجهت مزيجًا من الفقر والإقصاء والخذلان. بعضهم حوّل بيته إلى مستشفى منزلي، يداوي أبناءه بالأعشاب والكيّ، بعدما فقد الأمل في الطب الحديث. كثيرون فقدوا الإيمان بالدولة، وآخرون فقدوا الإيمان بعدالة السماء، وانهاروا في صمت.
هذه الشهادات لا تصرخ، لكنها تخز في القلب. إنها تُذكّرنا أن الكوارث لا تُقاس فقط بعدد الموتى، بل بمن ظلوا أحياءً وهم يتمنون الموت كل صباح.
📝 14. الخاتمة: من واجب التذكير لا النسيان
كارثة الزيوت المسمومة لم تكن مجرد حادث عارض في شريط التاريخ المغربي، بل كانت جريمة مركبة بحق الإنسان المغربي البسيط، جريمة لا تزال تسكن أطرافه، تُرهق ذاكرته، وتحرج صمته. لم يَقتل فيها السم فقط، بل قتل فيها التهاون، واللامبالاة، وغياب العدالة، وانكسار الثقة بين المواطن والدولة.
هي ليست قصة زيتٍ سام، بل قصة دولة كانت وليدة، تُختبر في أول امتحان لها تجاه شعبها، وفشلت. وليست فقط مأساة منسية، بل مرآة لما قد يحدث في كل مرة يتم فيها التساهل مع المراقبة، أو التهاون في الصحة، أو استيراد الأرخص مهما كان الثمن.
ورغم مرور أكثر من ستين عامًا، تبقى الكارثة شاهدة على هشاشة الحق في الغذاء الآمن، وعلى ضرورة أن تكون الذاكرة الجمعية درعًا لا خزانة منسية. فالتاريخ لا يُكتب فقط بالنصر والمعاهدات، بل أيضًا بالدموع والندوب، وبصرخات من لم يملكوا يومًا صوتًا في البرلمان أو الإعلام.
من واجب هذا الجيل أن لا يسمح بتكرار ما جرى. ومن واجبنا – نحن الذين نكتب ونوثّق – أن نعيد لهذه الكارثة حجمها الحقيقي في الوعي العام، لا كشهادة فقط، بل كمحطة تأسيسية في فهم العلاقة بين الدولة والمواطن، بين المسؤولية والأمان، بين الصمت والموت.
فلْنُبقِ هذه القصة حيّة، لا فقط بالصور والوثائق، بل باليقظة، بالأسئلة، وبالعدالة التي تأخرت كثيرًا… وربما لن تأتي أبدًا.