رحلة مؤلمة من الخضوع إلى المقاومة. يستعرض المقال كيف دمّرت الحماية الفرنسية النسيج الاقتصادي والاجتماعي للمغرب، وكيف استنهض المغاربة وعيهم الجماعي لكسر القيد الاستعماري.
لم يكن عام 1912 مجرد رقم في ذاكرة المغاربة. لقد كان جرحًا مفتوحًا، وانقلابًا صامتًا على قرونٍ من السيادة، وانكسارًا في النظرة الذاتية التي لطالما آمنت أن البلاد قد تتعثر، لكنها لا تُؤخذ عنوة. في ذلك العام، لم يُسقط المغرب سلاحه، بل أُجبر على لبس عباءة لم تُفصّل على مقاسه. وقّعت النخبة، وانكمشت البلاد. كان الظهير معلّقًا كوثيقة رسمية، لكنه في أعماقه كان صفعة مدوية لأرضٍ لم تستأذنها فرنسا حين قررت أن تُدرجها ضمن خريطتها.
لم تبدأ السيطرة الفرنسية في لحظة التوقيع، بل سبقتها أعوام من الزحف الصامت، من التسلل عبر القروض، والمناورات، والإصلاحات الشكلية التي لم تكن تُرمم البلاد بل تُمهّد لابتلاعها. وحين انهار كل شيء فجأة، لم يكن الانهيار عسكريًّا، بل كان انهيارًا في الكيان السياسي التقليدي، في فكرة المخزن التي لم تكن قد تعافت من أزماتها الداخلية، ولا من الطعنات الأوروبية المتكررة.
دخل الفرنسيون البلاد كما يدخل الغريب بيتًا لا يفهم عادات ساكنيه. نصبوا إداراتهم، فرضوا لغتهم، حددوا ضرائبهم، وبدأوا في فصل الجغرافيا إلى مناطق نفوذ، وقطعوا البلاد كما يُقطع القماش وفق ما يناسبهم. لم يكن الهدف تنميةً أو تحديثًا كما رُوّج لاحقًا، بل كان تركيعًا اقتصاديًّا، وتجفيفًا للروح، وإخضاعًا للعقل الجماعي، حتى يصير المغربي فردًا بلا ذاكرة، قابلًا للتطويع.
القرى التي كانت تنام على صوت الماء، استيقظت على وقع الجندية الإجبارية. والحقول التي اعتادت أن تنتج من أجل السوق المحلية، تحولت إلى مزرعة ضخمة موجهة لفرنسا. لم يكن الفلاح يملك قراره. لم تعد الأرض له، ولا السماء ترحمه. الضرائب تنهشه من الداخل، والعسكر يحرسون مصالح ليست له.
في المدن، كان الوضع أكثر سخرية. أحياء كاملة قُطعت عن محيطها، وأخرى نُظّمت وفق هندسة لا علاقة لها بروح البلاد. نمت المدن الأوروبية الصغيرة داخل المدن المغربية الكبرى، لم تكن فقط أحياءً، بل رموزًا لعالم موازٍ، تُطبّق فيه قوانين غير التي يعرفها المغاربة. كان هناك مغربان: واحد للفقراء، يئنّ تحت التبعية، وآخر للمستعمرين، يوزّع الأوامر ويحتكر الثروة.
لكن الأخطر لم يكن في البناء، بل في الهدم. هدم التعليم التقليدي، وإضعاف المؤسسات الدينية، وتفكيك الأواصر الاجتماعية التي كانت تحفظ نوعًا من التوازن. تحوّل التعليم إلى أداة لفرنسة العقول، ولزرع قناعة عميقة بأن المغرب تأخّر لأنه لم يكن يشبه فرنسا. كُتبت الكتب على مقاس المستعمر، ورُوّج لتاريخٍ يمحو الملاحم ويعيد سرد كل شيء من منظور الغالب.
ولم يكن الاقتصاد في منأى عن هذا التحوّل. فرنسا لم تُدخل استثمارات لتقوية المغرب، بل لربطه بالكامل بمركزها. كل ما يُنتَج هنا، يُصدر هناك. وكل ما يُستهلك هنا، يُستورد من هناك. جرى تفكيك الصناعة التقليدية، وخُنقت التجارة الحرة، وتحولت الفلاحة إلى اقتصاد موجه، لا يخدم الداخل بل يعمّق التبعية. لقد كانت البلاد تشتغل لصالح من ينهبها، والمغربي لم يكن يعي ذلك بشكل كامل، لكنه كان يشعر أن شيئًا ما لم يعد طبيعيًّا.
في الأسواق، كانت النقود تتغير، لكنها لا تُضاعف الخبز. وفي المقاهي، كان الرجال يتحدثون عن أخبار لا يفهمونها كاملة، لكنهم يشعرون أن شيئًا يُسلب منهم كل يوم. في الحواضر، نمت بيروقراطية جديدة تُدار بلغاتٍ لا تنتمي للأزقة، وصارت الإدارة عالَماً منفصلًا، لا يدخل إليه المغربي إلا مجبرًا، وغالبًا منهزمًا. أما الأمازيغ في الجبال، فقد كانوا مستهدفين بصيغة أكثر خبثًا، تُعزل لغتهم، وتُقسم أراضيهم، وتُزرع الفتنة بينهم وبين محيطهم العربي، بحجج ظاهرها التنظيم وباطنها التمزيق.
ولم تكن فرنسا تُمارس استبدادًا واضحًا دائمًا، بل كانت أحيانًا تُجيد لبس قفازات ناعمة. كانت تبني المدارس وتنتج الصور وتُقيم المعارض، لكنها في العمق لم تكن تُربّي الطفل المغربي على الحرية، بل على الطاعة. لقد فهمت مبكرًا أن السيطرة الحقيقية لا تكون في الميدان، بل في العقل. ومن هنا جاء الاستثمار الثقافي الكبير: صحف تُكتب بمزاجها، وكتب تاريخ تُروى من وجهة نظرها، وقوانين تُفرض على جسدٍ لم يُستشر يومًا في لبسها.
لكن رغم هذا كله، لم يُخمد صوت المقاومة. كانت النار تحت الرماد، وكان العقل المغربي، مهما بدا صامتًا، يُعيد بناء نفسه سرًّا. بدأت الخلايا الأولى تتشكل، ليس في الظاهر فقط، بل في الوعي. في الزوايا، في المدارس العتيقة، في التجمعات السرية، في القصائد التي تحمل أكثر مما تقول، في الدعوات التي تُدسّ تحت غلاف الدين أو التجارة أو حتى الفن.
لم يكن من السهل تنظيم مقاومة ضد قوة كانت تملك كل شيء تقريبًا: الأرض، والسلاح، والإعلام، والإدارة، وحتى بعض العقول. لكن الإرادة لا تُقاس بما تملكه، بل بما تعرف أنه يجب أن يكون لك. والمغاربة، الذين عاشوا قرونًا في كنف السيادة، لم يكن من السهل أن يعتادوا التبعية، حتى وإن بدت قدَرًا.
في البوادي، كان الفلاح يحمل معوله، لكنه في قلبه غضب. وفي الجبال، كانت النساء تُخبئن الرسائل، والرجال يحفرون خنادق الصمت. في المدن، بدأ الفقهاء والتجار يشكلون حلقة لا تهدأ من الوعي المتزايد. لم تعد فرنسا تُواجه شعبًا منقسمًا، بل مجتمعًا بدأ يُعيد تعريف نفسه.
ثم جاءت اللحظات الحاسمة: أحداث، تمردات، رسائل، شكاوى، ثم تصاعد تدريجي في النبرة. لم يعد الخطاب مجرد تذمر، بل صار رفضًا. لا صراخًا، بل وعيًا. وهنا بدأت فرنسا تشعر أن الأرض تتحرك تحت أقدامها. لقد كانت تظن أن التحكم الاقتصادي يكفي، وأن الإغراءات تكفي، وأن القمع حينًا والعطايا حينًا سيُسكتان الشعب. لكنها نسيت أن الشعوب التي عرفت الحرية، حتى وإن نسيت شكلها، لا تنساها في جوهرها.
حين بدأ الوعي يتكلم، لم يكن صوتًا واحدًا، بل أصواتًا متفرقة توحدها الغاية. لم يكن القادة السياسيون وقتها نجوماً ولا خطباء جماهير، بل رجالاً عاديين تكلموا باسم الناس لأنهم كانوا منهم. لم يكن أحد يبحث عن مجدٍ شخصي، بل عن لحظة كرامة تُعيد للمغربي إحساسه بأنه ليس مجرد تابع في حكاية يُكتب عنوانها في باريس. في الأحياء القديمة، بدأت الاجتماعات السرية تُقام خلف أبواب موصدة. وفي المدارس الحرة، كانت اللغة العربية تُدرّس على استحياء لكنها تُغرس بثقة.
فرنسا، التي كانت تدّعي حماية المغرب، بدأت تُحاصر صوته. الرقابة، السجن، النفي، كانت أدواتها المفضّلة. لكنها لم تفهم أن الفكرة حين تُولَد في زمن القهر، لا تموت بسهولة. لقد اعتقدت أن النخبة فقط هي من تتمرّد. لكن ما حدث أن الوعي وصل إلى البسطاء، إلى من لا يجيدون الكلام، لكنهم يفهمون جيدًا معنى أن يُسلب منهم وطنهم. وذاك كان بداية الكسر الحقيقي.
في الجنوب، في الريف، في الأطلس، كانت بوادر المقاومة تتشكل بشكل مختلف. لم تكن تنظيرات، بل كانت مواقف. رجال حفروا الخنادق لا ليهاجموا فقط، بل ليصونوا ما تبقى من كرامة الأرض. بعضهم لم يكن يعرف القراءة، لكنه كان يعرف جيدًا أن هذه الأرض ليست للبيع. وبعضهم لم يكن يملك بندقية، لكنه كان يملك صدرًا يتلقى الرصاص عن يقين.
وفي المدن، كان الشكل مختلفًا. مقاومة حضرية ناعمة، تبني مؤسسات تعليمية مغربية، تطبع منشورات خفية، توزع الوعي في أكياس السكر أحيانًا، وفي صفحات الشعر أحيانًا أخرى. المرأة بدأت تخرج من الظل، لا كشعار بل كفاعل حقيقي. تُخفي، تنقل، تواسي، تربي جيلًا على فكرة الحرية وهو بعد لم ينطق أولى كلماته.
كل شيء في البلاد كان يتغير، لكن تحت الأرض. وكانت فرنسا تراقب، تُهدد، تحاول أن تُغري النخب، أن تشتري الضمائر، أن تصنع طبقة وسطى موالية. لكن الحلم لم يكن قابلًا للبيع. الوطن، في تلك السنوات، لم يكن راية ولا خطابًا، بل كان نبضًا داخليًّا، لا تراه العين لكنه يملأ القلب.
ثم جاءت سنوات النار. الانتفاضات، الإضرابات، السجون التي امتلأت بالأجساد، لكن لم تستطع حبس الفكرة. في كل مرة يُعتقل فيها قائد، يولد آخر. في كل مرة يُصادر فيها منشور، يُكتب غيره في الخفاء. في كل مرة يُقمع فيها صوت، يعلو الهمس ليصير هديرًا.
ولم تكن فرنسا غبية. لكنها كانت عمياء بالسلطة. لم ترَ أن المغرب تغيّر. وأن الجيل الجديد لم يعد يقبل بما قبله الآباء. وأن النساء لم يعدن يُرِدن البكاء في الزوايا، وأن الرجال لم يعودوا يخافون من صوت الرصاص. لقد نشأ جيل يُجيد الاختباء، لكنه يُجيد أكثر الظهور حين تحين لحظة الحسم.
لم تكن لحظة الاستقلال إعلانًا فقط. كانت انفجارًا صامتًا لعقود من القهر. لم تكن فرحة بريئة، بل كانت مشوبة بوجعٍ ثقيل، كمن استعاد حريته أخيرًا لكنه ما زال يحمل آثار القيود على رسغيه. حين انسحبت فرنسا، لم تُخلِ فقط الإدارات والثكنات، بل تركت خلفها جراحًا في الذاكرة، وأسئلة لا تزال معلّقة. ما الذي تغيّر فعلًا؟ وهل نزع الراية كافٍ ليُعلن الإنسان نفسه حرًّا؟
الاستقلال جاء، لكنه لم يكن نهاية. كان بداية سؤال جديد: كيف تُبنى دولة من أنقاض؟ كيف تُسترد الروح حين تكون ملوّثة بلغة المستعمر وطرقه وطرائق تفكيره؟ لقد أدرك المغاربة، ببطء، أن التحرر لا يكون فقط بجلاء الجيوش، بل بتحرير التعليم، والثقافة، والاقتصاد من ذلك النفَس الذي ظلّ يهمس طويلًا أن لا خلاص إلا بالتبعية.
السنوات الأولى بعد الخروج الفرنسي لم تكن وردية. كثير من البنى بقيت كما هي، وعدد من الوجوه تغيّر شكليًّا، لكنها واصلت العمل في النظام نفسه. الإصلاح صار شعارًا، لكن الإصلاح الحقيقي كان مؤلمًا، لأنه يعني الاعتراف أن الاستعمار لم يكن مجرد احتلال أرض، بل تشويشًا على الذات، وأن التخلص منه يستلزم شجاعة مراجعة النفس قبل اتهام العدو.
ورغم ذلك، استمرت البلاد. ليس لأنها وجدت كل الأجوبة، بل لأنها رفضت الاستسلام لعدم وجودها. عاد المثقف ليكتب، والعامل ليبني، والفلاح ليزرع، لكن هذه المرة وهم يملكون إدراكًا جديدًا بأن المغرب ليس مجرد رقعة جغرافية، بل مشروع إنساني طويل، يتجدد بتجدد أبنائه.
وبقيت الذاكرة. بعضهم أراد أن ينساها، أن يُنظف دفاتر الماضي ويبدأ من الصفر. وبعضهم، وهم الأصدق، قرر أن يُبقي الندبة، لا للتشهّي، بل لتذكير الأجيال أن الحرية ليست منحة، وأن السيادة لا تُستعار. في القرى، لا تزال الجدّات يروين كيف كانت فرنسا تأخذ الشبان ولا يعودون. في المدن، لا تزال أسماء الشوارع تهمس بتاريخٍ لم يُمحَ تمامًا. وفي القصائد، لا تزال كلمات تنطق بالغضب القديم.
المغرب ما بعد الاستعمار لم يعد كما كان. لا في الشكل، ولا في العمق. لكنه لم يعد كذلك أيضًا، لأنه نضج. عرف ما معنى أن يُؤخذ منك وطنك، وما معنى أن تُؤسسه من جديد. صار أكثر صلابة، لا لأنه قوي دائمًا، بل لأنه جرّب الانكسار وعاد.
وهنا تكمن الحكاية كلها: أن تُكسر ولا تُهزم. أن تُحاصَر ثم تُقاوِم. أن تُسلب ثم تُنبت من قلب السلب ذاكرة ورفضًا واستعادة. هذا هو المغرب، الذي دخل عصر الحماية وهو يتعثّر، وخرج منه واقفًا، بوجهٍ فيه آثار اللكمات، لكن في عينيه بريق لم يخفت أبدًا.