رحلة المغرب من لحظة الخضوع للسيطرة الفرنسية إلى لحظة استرجاع الاستقلال… هل كان التحرير نهاية النكبة أم بداية الخيبة؟
لم يكن وقع التوقيع على وثيقة الحماية لحظة سياسية باردة، بل كان صوتَ شيء يُنتزع من أعماق المغاربة دون أن يُستأذنوا. في ربيع العام 1912، لم تُمحَ السيادة فجأة، لكنها بدأت تتآكل بتدرج، كما يذوب الجليد من أطرافه. فرنسا لم تأتِ بمدافعها فقط، بل جاءت بمشروعها الكامل: تنظيم جديد للإدارة، للقانون، للاقتصاد، وحتى للزمن. ومنذ اللحظة الأولى، صار المغرب يعيش داخل جلد ليس جلده، وبلغة لا تُشبه صوته.
لم يكن الناس يومها يعرفون كل شيء، لكنهم كانوا يشعرون. والناس حين يشعرون بالاختناق، لا يحتاجون إلى أدلة مكتوبة كي يدركوا أن ثمة شيئًا فاسدًا في الهواء. المدن الكبرى بدأت تتغير ملامحها بسرعة مذهلة. الرباط لم تعد العاصمة الهادئة التي تعيش على إيقاع المخزن فقط، بل صارت مقرًا للسلطة الجديدة، تحرسها اللافتات والأوامر ومباني الهندسة الفرنسية الباردة. فاس، التي كانت عاصمة الروح، بدأت تنكمش، كأنها تتهيأ لدفن عتيقها في تراب اليأس.
وفي الجبال، حيث لم تصل بعد يد الفرنسي، كان الصمت أقرب إلى الرفض. لم يكن هناك تنظيم، لكن الذاكرة كانت حية. قبائلٌ اعتادت أن تُبايع السلطان دون وسيط، صارت تتلقى أوامره عبر مقيم عام غريب الاسم والهيئة. لم تكن الثورات المسلحة قد بدأت، لكن شرارات الغضب كانت واضحة، تُشبه صرير الخشب قبل الاشتعال.
الفرنسي لم يكن وحده في المشهد. الإسباني كان هناك أيضًا، يقضم جزءًا من الشمال، ويزاحم في الجنوب. وكان المغرب، الذي لطالما افتخر بوحدته الجغرافية، يُقسَّم ببطء كقطعة غنيمة بين قوتين تعرفان أن الضعف هو الفرصة الذهبية.
لكن ما لم تفهمه الحماية من البداية هو أن المغرب لم يكن فقط أرضًا، بل ذاكرة. والذاكرة لا تُنتزع بتغيير العملة أو القانون. فحتى حين ساد الصمت، كان الداخل يغلي. التعليم التقليدي قاوم. العلماء قاوموا بالصمت، ثم بالكلمة. الزوايا قاومت بالحفظ، والنساء قاومن بنقل الرسائل، والخطباء قاوموا بالتلميح، ثم بالإشارة، ثم بالمواجهة.
لم يكن النظام الاستعماري نظامًا غبيًا. كان ذكيًا بما يكفي ليعرف من أين يبدأ: المدارس، الضرائب، تقسيم البلاد إلى مناطق. لكنه كان غبيًا حين ظنّ أن التحكم في المخزن يعني التحكم في الناس. المخزن انحنى، لكنه لم يسقط. ظلّ يشبه ظلاً لنظام قديم، يتنفس بهدوء، لكنه لم يمت. ولمّا بدأ الوعي يتشكل، لم ينطلق من لا شيء. انطلق من هذا الظل، من بقايا الدولة القديمة، من فكرة أن ما يُأخذ بالقوة لا يُقبل إلا مؤقتًا.
في سنوات ما بعد الظهير، كانت البلاد تشهد انقسامًا خفيًا. في السطح، إدارة جديدة، قانون جديد، خرائط تعاد صياغتها في مكاتب من خشب لامع. لكن في العمق، كانت الروح القديمة تُعاند. المغرب لم يكن يعاني من احتلال عسكري فقط، بل من محو رمزي بطيء. كانوا يعيدون تعريف كل شيء، من مفهوم المواطن إلى معنى الطريق العام. الشارع لم يكن مجرد ممر، بل أصبح مسرحًا لصراع صامت بين نظافتهم ونبضنا.
في المدرسة، كان الطفل المغربي يتعلّم بلغة ليست لغته، عن تاريخ لا يمتّ إليه بصلة، في مناهج تُخفي أسماء أبطاله وتُجمّل صورة المحتل. لم يكن التعليم أداة معرفة، بل أداة قولبة. والمغربي، منذ صغره، كان يُدرّب على أن لا يرى، أن لا يسأل، أن ينسى. وكانوا يظنون أن الجيل القادم سيكون أكثر طاعة. لكنهم لم يعرفوا أن التناقض هو الذي يصنع الوعي. حين تعيش حياة لا تشبهك، تبدأ بالسؤال. وحين تسأل، تبدأ بالتشكيك. ومن الشك، يولد الرفض.
في الحقول، كانت الأرض تُستنزف لغير أهلها. والقمح الذي ينبت من التراب المغربي، كان يُرسل إلى الموانئ. لم يكن الفلاح المغربي يعرف مصير محاصيله، لكنه كان يعرف أنه يعمل أكثر ويأكل أقل. الضرائب تنهشه، والمسؤول الفرنسي لا يفهم لغته ولا يكلّف نفسه أن يفعل. العدالة أصبحت غريبة، والمحاكم التقليدية خُصيت بمرسوم، واستُبدلت بهيئات تحمل لغة مكسورة ووجهًا جامدًا.
ولم يكن الأمر متعلقًا فقط بالإدارة أو الزراعة أو التعليم. كانت المشكلة أعمق: هوية البلاد كانت تُعاد كتابتها عنوة. والمغربي الذي كان يعتز بلباسه ولهجته ودينه، صار يشعر – دون أن يُقال له – أن كل ما فيه متخلف. لأن كل ما هو فرنسي كان يُقدَّم كمرادف للتقدّم، وكل ما هو محلي كان يُعامَل كتقليد يُخجل منه.
لكن الهوية لا تُستبدل مثل الثياب. وحتى حين صمت الناس، كانوا يخزنون الوجع في الصدر. وشيئًا فشيئًا، بدأ صوت المقاومة يتبلور. لم تكن مقاومة منظمة بعد، بل كانت مثل الشقوق التي تبدأ في حائط عالٍ. شق هنا في الجنوب، وشق في الريف، وشق في الجبال. لم تكن القنابل قد ظهرت، لكن الكلمات الأولى بدأت تُكتب على الجدران.
في الأسواق، صار الناس يتهامسون. في الزوايا، كانت الدروس تأخذ طابعًا مضمرًا: مقاومة بالفقه، بالتاريخ، بالحكاية. كانوا يعلمون الأطفال أن المغرب لم يكن تابعًا، دون أن يقولوا الكلمة مباشرة. وبدأت الشبكات تنشأ: لا سياسية فقط، بل اجتماعية، ثقافية، صوفية. لأن المقاومة لا تبدأ بالشعار، بل بالذاكرة.
في المدن الكبرى، بدأت الملامح تتغيّر. في فاس والرباط وسلا، في مراكش والدار البيضاء، صار هناك حضور خفي لنخبة جديدة، لا تملك السلطة لكنها تفكر فيها. أبناء العائلات المتعلمة، بعضهم درس في المعاهد الفرنسية، وبعضهم في الزوايا والكتاتيب، التقوا على غير موعد، لا في الولاء للمخزن، بل في القلق على البلاد.
كانت اللقاءات الأولى خجولة. دردشات في مقهى، نقاشات في بيت قديم، رسائل متبادلة عبر أصدقاء أو مكتبات. ثم شيئًا فشيئًا، صار هذا القلق يتحول إلى أفكار. الأفكار إلى بيانات. والبيانات إلى حركة. لم يكن الجميع ثوريًّا، ولم يكن أحد متفقًا على كل شيء، لكن الشعور بأن البلاد لا تسير في طريقها الطبيعي صار جامعًا. والاختلاف في التفاصيل لم يكن حاجزًا، بل حافزًا لتنسيق أكبر.
حين بدأ الحديث عن إصلاحات، لم يكن الطلب على السلطة، بل على الكرامة. كانوا يطالبون بحق التعلم بلغتهم، بحق إدارة أرضهم، بحق عدم إذلالهم في الدوائر الرسمية. لم تكن هذه المطالب خيالية. كانت الحدّ الأدنى لما يجعل الإنسان يشعر أنه موجود. لكن الرد الفرنسي لم يكن تفاهمًا، بل مراوغة. إصلاحات شكلية، لقاءات شكلية، وعود مؤجلة. وكأنهم يعتقدون أن المغربي يمكن تهدئته بالقليل من الكلام.
لكن الكلام لم يعد يكفي. وبدأت التوترات تظهر. في بعض المدن، وقعت اضطرابات. في البوادي، رفضت بعض القبائل التعاون مع الإدارة الجديدة. في الجنوب، أعاد بعض القادة تنظيم شبكاتهم. وفي الشمال، كان الوجود الإسباني يخلق واقعًا أكثر تعقيدًا، لكنه أيضًا كان يُنتج أشكالًا أخرى من التحدي.
الوعي، في تلك اللحظة، لم يعد حكرًا على النخبة. بدأ ينزل إلى السوق، إلى الحقل، إلى الورش. العامل الذي يُضرب، الفلاح الذي يُجبر على بيع منتوجه بثمن زهيد، الطالب الذي يُقصى من الجامعة لأنه رفع صوته، التاجر الذي يُداهم محله لأنه لم يُعجب المراقب الفرنسي… كلهم صاروا شركاء في قناعة واحدة: هذا الوطن لا يُدار باسمنا، ولا يُبنى من أجلنا.
ولأن القناعة كانت جماعية، بدأت اللغة تتغير. لم يعد الناس يقولون “الحماية”، بل “الاحتلال”. لم يعودوا يقولون “الإصلاح”، بل “الاستقلال”. لقد خرجت الكلمة من الظل، وصارت تُقال علنًا، في الصحف، في الخطب، في المراسلات. ولم يعد يُنظر إلى فرنسا كحامية، بل كجاثم ثقيل يُفرّغ البلاد من روحها.
وكان لا بد للصدع أن يكبر. والفرنسي، الذي أجاد المناورة طويلًا، بدأ يفقد صبره. الاعتقالات عادت، والمراقبة اشتدت، والخوف من القادم صار واضحًا في خطاباته. لكنه لم يكن يعرف أن الزمن تغيّر، وأن الجيل الجديد لم يعد يقبل المساومات. لقد ولد من صمتٍ طويل، لكن حين تكلم، لم يعد يسكت.
في ردهات البيوت القديمة، حيث لا شيء يتحرك إلا الهمس، بدأت الاجتماعات تأخذ طابعًا مختلفًا. لم تعد لقاءات نقاش فقط، بل ورش تفكير، تخطيط، توزيع أدوار. لم يكن هناك مركز واحد، ولا تنظيم موحد، لكن الروح كانت واحدة. في كل مدينة، كان هناك من يكتب، من يطبع، من يوزع، من ينسق. جيل بكامله، لم يولد في ثورة، لكنه خلقها.
حين تأسست الخلايا الأولى لحركات وطنية صريحة، لم يكن ذلك باسم العنف، بل باسم الكلمة. الصحافة كانت السلاح الأول. في كل عدد يُهرّب، كانت هناك صفحة تُربك حسابات فرنسا. في كل افتتاحية تُكتب بلغة حادة، كان هناك قلب يخفق باسم الوطن. لم تكن البيانات فقط تُقرَأ، بل كانت تُحفظ وتُردَّد وتُنسخ على أوراق عادية. لم يكن الناس يتصفحونها بعين القارئ فقط، بل كأنهم يتلمسون نبض بلدهم في كل سطر.
ثم جاء الوقت الذي صار فيه السكوت جريمة. لأن فرنسا لم تعد تكتفي بالإخضاع، بل أرادت إعادة تشكيل المغرب بالكامل. قوانين جديدة تُفرغ السلطة من أي مغربي حقيقي، وتُرسّخ الوجود الفرنسي كأمر واقع. المدارس تُقصي كل ما هو عربي. المحاكم تُجرّد العلماء من دورهم. الضرائب تستنزف الناس، وتُعيد إنتاج الفقر على اتساعه.
في المقابل، بدأت الاحتجاجات تكبر. تظاهرات هنا، إضرابات هناك، نداءات تُطلق من المساجد، من النقابات، من الأحياء القديمة. وشيئًا فشيئًا، بدأت فرنسا تفهم أن الأمر خرج من يدها. وأن القمع لم يعد يكفي. فزادت في شدته. اعتقالات، نفي، حصار. لكنها كانت تُواجه طوفانًا لم يعد له رأس واحد. الشعب صار هو الرأس. والناس حين يتكلمون جميعًا، لا يُمكن إسكاتهم بحبس زعيم أو حظر منشور.
ثم جاءت لحظة الذروة: وثيقة الاستقلال. لم تكن فقط ورقة، بل كانت إعلانًا أن المغاربة لم يعودوا ينتظرون من يحرّرهم، بل قرروا أن يحرروا أنفسهم. الوثيقة لم تُقدَّم لأخذ إذن، بل لإعلان موقف. ومنذ تلك اللحظة، تغيّر كل شيء.
فرنسا ارتبكت. تعاملت مع الوثيقة كتمرد يجب قمعه، لا كإرادة يجب فهمها. فبدأت حملة قمع واسعة. لكن الفكرة كانت قد خرجت من القنينة، ولم يكن بالإمكان إعادتها. الناس خرجوا إلى الشارع. القرى انتفضت. العيون باتت مفتوحة. والمغرب لم يعد البلد الذي كان.
وحين تم نفي السلطان محمد الخامس، لم يكن النفي شخصيًا فقط. لقد كان محاولة أخيرة لضرب الرمز. لكن الرمز، حين يكون نابعًا من وجدان شعب، لا يُنفى. بل يتكاثر. لقد صار محمد الخامس في تلك اللحظة صورة في كل بيت، دعاء في كل صلاة، أغنية تُغنّى في الأزقة.
عندما نُفي محمد الخامس، لم تُسقط فرنسا سلطانًا، بل أيقظت ذاكرة. كان النفي بمثابة صدمة كهربائية أصابت الجسد النائم. لم يعد بالإمكان الحديث عن تهدئة أو تفاوض أو مراحل إصلاح. الناس خرجوا من منازلهم لا ليهتفوا فقط، بل ليعيدوا التوازن إلى وطنهم المختل. والمقاومة لم تعد حالة نخبوية، بل امتدت في كل مكان، حتى صار البلد كله جبهة.
الجبال، التي كانت تتنفس صمتًا طويلًا، بدأت تصدح بصوت البنادق. الخلايا التي تأسست في الخفاء خرجت إلى العلن، بوجوهٍ قررت أنها لم تعد تخشى القمع. والمدينة، التي طالما كانت خزان الفكرة، صارت تمد الريف بالرجال والخرائط والتعليمات. لم يعد هناك فرق بين معلم وفلاح، بين طالب وصانع، بين امرأة تخيط وأخرى تخفي وثائق. الكل صار جزءًا من نسيج مقاومة تُحاك في ليلٍ طويل لا يعرف النوم.
وفي كل مواجهة، كانت فرنسا تخسر شيئًا من شرعيتها. كل شهيد كان يضيف إلى القضية وزنًا لا تستطيع الدبابات محوه. كل مظاهرة تُفرّق بالعنف، كانت تزيد من وضوح الصورة. العالم بدأ يلتفت. لم تعد فرنسا قادرة على تبرير وجودها. الصحف الدولية بدأت تنشر ما يحدث، القناصل يرسلون تقاريرهم المحرجة، والرأي العام يتغير.
لكن الداخل كان أهم. الداخل الذي لم يعد يرى في الفرنسي مديرًا أو معلمًا، بل خصمًا. ومع انطلاق العمليات الفدائية في المدن، دخلت البلاد في مرحلة اللاعودة. قنابل تُزرع في مقرات الأمن، اغتيالات محددة بدقة، توزيع المنشورات ليلًا، حرق رمزي للمنشآت. لم يكن الهدف القتل، بل إيصال رسالة: أن البلاد حيّة، وأن الصمت انتهى.
وفي كل هذا، ظلّ الملك الغائب حاضرًا. صوره على الجدران، صوته في الراديو، اسمه في القصائد. كان الرمز الوحيد الذي جمع الجميع. الوطنيون، الفدائيون، العلماء، البسطاء، حتى المترددون… كلهم رأوا في محمد الخامس خيطًا يربطهم بتاريخهم ويقودهم نحو مستقبلهم. لقد تحوّل من حاكم إلى ذاكرة حية.
وحين بدأت فرنسا تدرك حجم خطئها، حاولت التراجع، لكنها كانت متأخرة. المغرب لم يكن يطالب بعودة ملكه فقط، بل بعودة كيانه. فبدأت التنازلات تظهر، لكن الشارع لم يعد يثق. الشهداء صاروا أكثر من أن تُنسى دماؤهم بصفقة، والناس صاروا أكثر وعيًا من أن يُهدَّؤوا بعبارات دبلوماسية.
وبينما كانت فرنسا تبحث عن مخرج مشرّف، كانت البلاد تستعد للعودة الكبرى. محمد الخامس، في منفاه، لم يصرخ، لم يهدد، لم يطلب. لكنه بقي، بصمته، يحاصر فرنسا من الداخل. لأنه كان يعلم أن السيادة لا تُستعاد بمرسوم، بل بإجماع وجداني لا يُكسر. وقد تحقق ذلك.
حين هبطت الطائرة في سماء الرباط، لم يكن المشهد عادياً. لم يكن مجرد استقبال سلطاني، بل طقوس عودة الذاكرة إلى جسدها. الناس لم يخرجوا فقط لرؤية وجهه، بل ليشهدوا اللحظة التي يُغلق فيها فصل طويل من الإهانة. دموع الشيوخ، زغاريد النساء، وهتافات الشباب، لم تكن لملك، بل لكرامة عادَت تُرفرف فوق الأعمدة القديمة.
لم يتكلم كثيرًا. لم يكن بحاجة إلى الخُطب. حضوره كان كافيًا لقول كل شيء. وفي عينيه، رغم البسمة التي تشبه السكينة، كان هناك وعي عميق بأن العودة ليست نهاية، بل بداية حمل أثقل: ترميم وطن استُنزف، بناء دولة من رماد، إطفاء نارٍ لم تُطفأ بعد.
الاستقلال لم يكن لحظة ساحرة. كان حدثًا مركبًا، بقدر ما كان مُفرحًا، كان مُربكًا. الفرنسيون لم يغادروا دفعة واحدة، ولم يسلموا كل شيء. كثير من الإدارات بقيت بوجوهها القديمة. كثير من البُنى استمرّت دون تغيير. التبعية الاقتصادية، الازدواجية القانونية، الغموض الدستوري، والفراغ المؤسساتي… كلها كانت حقول ألغام تنتظر من يُعيد رسم طريق الخلاص.
محمد الخامس لم يكن غافلًا. لكنه كان أمام تركة ثقيلة، وشعب عطش للعدالة، لكنه بلا تجربة في بناء الدولة. كان عليه أن يكون حكيمًا لا ثوريًّا. أن يُهدئ النفوس دون أن يُخدرها. أن يمنح الأمل دون أن يبيع الوهم. فبدأ خطوة خطوة، يدمج، يُعيد، يُعيّن، ويُطمئن. لكن الجرح كان أعمق من أن يُشفى بسرعة.
من خلف الأمل، كان هناك قلق. ماذا بعد؟ من سيحكم؟ بأي شرعية؟ بأي آلية؟ الأحزاب الوطنية التي قادت النضال، وجدت نفسها في اختبار جديد: المعارضة أو الشراكة؟ والشعب، الذي انتفض لكرامته، بات في حاجة لمن ينقله من حماس الشارع إلى توازن المؤسسات.
المغرب لم يكن دولة جاهزة تنتظر السيادة، بل كان سيادة تُفرض على فراغ يحتاج إلى ملئه من الصفر. لا دستور، لا برلمان، لا إدارة وطنية قوية. كل شيء تقريبًا كان يجب أن يُبنى، لا على ورق، بل على وعي. وهذا أصعب ما في الاستقلال.
ثم بدأ الزمن يُظهر وجهه الحقيقي. طموحاتٌ تتضارب، مصالح تتقاطع، أحزاب تتنازع، تقارير تُرفع، قرارات تُؤجل. الثورة لم تكن ضد المستعمر فقط، بل ضد التخلف، ضد العطالة، ضد الفقر، ضد المركزية المفرطة، ضد الجهل الذي تراكم خلال عقود. وكل هذا، لم يكن يختفي برحيل فرنسا.
محمد الخامس ظل متماسكًا. كان يعرف أن الصبر جزء من المعركة. لكنه كان يدرك أيضًا أن الانتظار لا يكفي. فبدأ يُعلن بوضوح أن لا عودة إلى الوراء، وأن الاستقلال ليس فقط جلاء عسكريًا، بل فعل بناء داخلي صعب.
السنوات التي تلت الاستقلال لم تكن نقية. كانت ممتلئة بالتردد. ما بين حلم تأسيس دولة عادلة، وواقع تراكمات الاستعمار، كان المغرب كمن يسير حافيًا فوق زجاج التاريخ. لم يكن من السهل بناء مؤسسات تُعبّر عن الجميع، لأن الجميع كان مرهقًا. النخب مختلفة. الشعب في انتظار. الإدارة بوجوهها القديمة. والعالم يراقب.
الملكية كانت مركز التوازن. لا لأنها تفرض سلطتها، بل لأنها وحدها التي بقيت محل إجماع نسبي. محمد الخامس لم يكن زعيمًا سياسيًا فقط، بل كان رجلًا يحمل عبء اللحظة بكاملها: شرعية النضال، شرعية التاريخ، وشرعية بناء المستقبل. وكان يعلم أن الفوضى السياسية لا تقل خطرًا عن الاحتلال.
في أروقة القرار، كانت التحديات أكبر من الطموحات. توزيع السلطة، صياغة الدستور، ضبط الأمن، إصلاح التعليم، إعادة هيكلة الاقتصاد، معالجة أزمة الأراضي، تأسيس أجهزة القضاء… كل ملف كان يحتاج لوقت وصبر ومهارة. لكن الشعب كان يريد نتائج. بعد كل هذا الصبر، أراد أن يرى شيئًا ملموسًا. شيئًا يشبه الخلاص.
ومع الوقت، بدأ الانقسام. بعض القوى الوطنية شعرت أن الثورة اختُطفت. أن التضحيات صودرت. أن المخزن القديم عاد يتسلل من أبواب الدولة الجديدة. وبدأت لغة النقد، ثم الشك، ثم التوتر. لم يكن الصراع بين من يُحب الوطن ومن لا يحبه، بل بين من اختلفوا في الطريقة، في التوقيت، في من له الأولوية في هندسة البلد.
لكن وسط كل هذا، ظل المغاربة يتحسسون طريقهم. التجربة كانت جديدة على الجميع. لا وصفات جاهزة. لا مرجعيات محلية. فقط ذاكرة مكلومة، وآمال واسعة، وكثير من الأخطاء. الدولة لم تكن مثالية، لكنها كانت تحاول. وبعض المؤسسات كانت تُعاد صناعتها على عجل. وبعض المبادئ كانت تُضبط خلال المسير، لا قبله.
وفي القرى البعيدة، ظل الناس ينتظرون. هل سيأتي التعليم؟ هل ستصل الكهرباء؟ هل ستُسترجع الأرض؟ في المدن، الشباب بدأ يسأل: ما معنى الاستقلال إن لم تتغير حياتي؟ هل تحررت الأرض فقط، أم تحرر الإنسان معها؟ هذه الأسئلة لم تكن تُقال جهراً دائمًا، لكنها كانت تدور في العيون.
ثم رحل محمد الخامس، فجأة، بعد سنوات قليلة من الاستقلال. لم يكن عجوزًا، لكنه بدا وكأنه أحرق عمره في تلك السنوات الأخيرة. حين مات، لم تكن الجموع تبكي ملكًا فقط، بل تبكي الوعد الذي لم يكتمل. وتُدرك، في صمتٍ مرير، أن ما ينتظرهم أصعب من كل ما مضى.
لأن الاستقلال، مهما بدا ناصعًا، لا يكفي. إذا لم تُبْنَ دولة عادلة، إذا لم يشعر المغربي أنه شريك، إذا لم تُصَغ مؤسسات تعبّر عنه، فسيبقى الخوف قائمًا. سيعود الاستبداد، لا بوجه فرنسي، بل بوجه محلي. وسيبقى السؤال مؤلمًا: هل استعدنا كل شيء، أم فقط غيّرنا اسم من يُديرنا؟
هكذا دخل المغرب الاستقلال. لا كمن عبر النهر بسلام، بل كمن خرج من جرحٍ طويل، يُضمد نفسه وهو يواصل المشي. حكاية بلد لم يُهزم، لكنه لم ينتصر بعد كما يريد.