الإنقلاب الفاشل بالصخيرات 1971: لحظة اهتز فيها عرش الحسن الثاني

في ظهيرة يوم السبت 10 يوليوز 1971، وبينما كانت النخبة السياسية والعسكرية للمملكة مجتمعة داخل قصر الصخيرات، على شرف احتفال بعيد ميلاد الملك الحسن الثاني، دوّت طلقات الرصاص لتعلن انطلاق واحدة من أكثر اللحظات دموية وتشويقًا في التاريخ السياسي المغربي الحديث. انقلاب عسكري كامل الأركان، كاد أن يُسقط النظام الملكي ويغير مسار البلاد.

🧭 السياق العام قبل الانقلاب: أزمات متراكمة ومؤسسات هشة

كان المغرب مطلع السبعينيات يواجه تناقضات صارخة بين شعارات الحداثة والمؤسسات، وبين واقع اجتماعي هش تميّزه الأمية، البطالة، والهوة المتزايدة بين الحاكمين والمحكومين. رغم أن الملك الحسن الثاني كان يُقدّم نفسه كقائد إصلاحي ومثقف قانوني، فإن بنيات الدولة ظلت شديدة المركزية، ووليدة تحالفات بيروقراطية-قبلية لا تترك مجالًا حقيقيًا للمحاسبة.

في هذه الأجواء، لم يكن مستغربًا أن تشعر بعض فئات الجيش، وخاصة التي لم تُدمج في دوائر الامتياز، بالغُبن. ظهرت شبكات من التذمر في صفوف الضباط الشباب الذين تلقوا تكوينهم في مدارس فرنسية أو وطنية حديثة، وكانوا يحملون حماسًا قوميًا أو ماركسيًا، أو ببساطة طموحات مقموعة. هؤلاء رأوا أن ولاءهم لم يُكافَأ، وأن البلاد تسير في اتجاه يرسّخ النخبوية ويُقصي الكفاءة.

🗓️ يوم الانقلاب: تفاصيل دقيقة من الرعب والدماء

مع حلول الساعة الثانية بعد الزوال، وبينما كان المدعوون يتناولون الغداء، اقتحم مئات الجنود من مدرسة أهرمومو القصر، وأطلقوا النار عشوائيًا. تقول بعض الشهادات إنهم لم يكونوا يعلمون أن هدف العملية هو اغتيال الملك، بل تم إقناعهم أنهم ذاهبون لصدّ مؤامرة ضده.

داخل القصر، سادت حالة من الذهول والهلع. بعض الحاضرين قُتلوا دون أن يعرفوا سبب وجود الجنود، فيما احتمى آخرون تحت الطاولات أو داخل الحمامات. أحد الناجين ذكر أن الجنود كانوا يسألون: “أين الملك؟” وكأنهم ينفذون أوامر دون قناعة. كما سقط سفراء أجانب ورجال سلطة بالرصاص، بينما ظل الملك متخفيًا لساعات.

🎙️ الخطاب الملكي: لحظة استعادة السيطرة

بحلول المساء، ظهر الحسن الثاني عبر الإذاعة بخطاب مرتجل بثه الراديو الرسمي، أعلن فيه نجاته، وشكر الله الذي “حماه من كيد الأعداء”. هذا الخطاب بثّ الطمأنينة في صفوف أنصاره، وأعلن بداية انقلاب مضاد سريع، استُعمل فيه كل الجهاز العسكري الموالي للقصر.

في اليوم التالي، كانت شوارع الرباط والدار البيضاء تحت سيطرة وحدات الدرك والقوات المسلحة، وتم شن حملة اعتقالات في صفوف الجيش، ليس فقط ضد المتورطين بل حتى من عبّر عن أي تعاطف أو تحفظ.

📚 الخلفيات الفكرية للمنفذين: هل كانت ثورة أم مؤامرة؟

العديد من الضباط المشاركين كانوا شبابًا، متخرجين من مؤسسات عسكرية حديثة، ويؤمنون بمثالية التغيير. لم تكن هناك أيديولوجية موحدة: بعضهم تأثر بخطاب قومي راديكالي، والبعض الآخر كان فقط ساخطًا على فساد المحيط الملكي.

الكولونيل محمد اعبابو، مهندس الهجوم، كان شخصية جدلية. شديد الانضباط، حاد المزاج، تلميذ سابق في فرنسا، لكن يعاني من غياب الاعتراف. قاد العملية بتصميم غريب، ولم يظهر عليه تردد حتى اللحظة الأخيرة. يُقال إنه أطلق النار على نفسه حين تأكد من فشل المخطط، ورفض أن يسقط حيًّا في يد النظام.

🧾 شهادات من قلب الجحيم: روايات ناجين وفاعلين

إحدى أبرز الشهادات جاءت من الصحفي الفرنسي “إيريك لوران” الذي التقى في منفاه بالجنرال محمد أوفقير قبل مقتله، حيث ألمح هذا الأخير إلى معرفته المسبقة بالانقلاب، بل إنه أشار إلى أنه “ترك الأمور تتطور لمعرفة من سيقف ضده ومن معه”.

أما شهادة الجنرال عبد العزيز مزيان بلفقيه، فقد أكدت أن عددًا من كبار الضباط صُدموا من عنف الهجوم، وأن بعضهم اضطر لإطلاق النار دفاعًا عن حياته، لا قناعة بخطة الانقلاب.

وفي مذكرات عبد اللطيف اللعبي، أشار إلى أن أحداث الصخيرات كانت بمثابة شرخ في وعي جيل بأكمله، وأنها مهّدت للقبضة الأمنية التي ستخنق المغرب طيلة السبعينيات والثمانينيات.

وفي شهادة أحد المدعوين إلى القصر، قال: “سمعت الرصاص يخترق الزجاج، رأيت شخصيات تسقط إلى جانبي، ولم أفهم ما يجري. ظننت أنها حرب حقيقية ضد المغرب”.

🔄 أحداث مرتبطة: تمهيد وانعكاسات

  • مايو 1971: رصد تحركات غير اعتيادية في محيط أهرمومو دون تدخل من المخابرات.
  • غشت 1971: بداية حملة اعتقالات صامتة في صفوف الضباط ممن عبّروا سابقًا عن انتقادات لنظام الحكم.
  • غشت 1972: محاولة الانقلاب الثانية خلال رحلة الحسن الثاني الجوية، بقيادة الطيارين العسكريين.
  • 1973–1980: توسع سجون سرية أبرزها تازمامارت، واعتقال رموز يسارية وجنود سابقين.
  • 1991: بداية ظهور شهادات ناجين من تازمامارت تكشف حجم الانتهاكات التي أعقبت الانقلاب.

🧩 الصخيرات في الأدب والذاكرة الثقافية

استلهم عدد من الكتاب والروائيين المغاربة هذه اللحظة الدامية لتأريخها أدبيًا، كما فعل الطاهر بنجلون في بعض أعماله الرمزية، أو كما ظهرت تلميحات واضحة في أعمال عبد الكريم غلاب. كما ظهر الفيلم الوثائقي “قصر الدم” (غير مرخص رسميًا) كأول محاولة بصرية لكشف ما دار في الساعات الرهيبة.

في الذاكرة الشعبية، ظل اسم “أهرمومو” مرادفًا للخوف، إلى أن قررت السلطات لاحقًا تغييره إلى “رباط الخير” في محاولة لإعادة صياغة الرمزية.

✅ خاتمة: حين يصبح العرش في مهب البنادق

ما حدث في الصخيرات لم يكن مجرد مغامرة طائشة من ضباط حالمين، بل كان تتويجًا لمسار طويل من التوترات والخيبات والاحتقانات التي تفجرت في وجه النظام. ورغم أن المحاولة فشلت عسكريًا، إلا أنها نجحت في تغيير المغرب من الداخل.

لقد شكلت الصخيرات خطًا فاصلًا بين مغرب ما بعد الاستقلال الحالم، ومغرب الدولة الأمنية بكل ما تعنيه من رقابة وتحكم. وربما لا يزال هذا الحدث – رغم مرور أكثر من نصف قرن – بحاجة إلى قراءة وطنية جديدة، بعيدة عن التوظيف السياسي، وقريبة من الإنصاف التاريخي.

أضف تعليق