احتجاجات الحسيمة (2016–2017): من الغضب المحلي إلى النقاش الوطني

في خريف 2016، وبالضبط في ليلة 28 أكتوبر، وقع حدث سيُدوِّن اسمه في ذاكرة المغاربة لسنوات قادمة. في مدينة الحسيمة، شمال البلاد، قضى الشاب محسن فكري داخل شاحنة لنقل النفايات، بطريقة مأساوية، بعدما حاول استرجاع بضاعته المصادرة من طرف السلطات. مشهد وفاته المروّع، المصور والمنتشر على وسائل التواصل، أشعل فتيل واحدة من أطول وأوسع الحركات الاحتجاجية التي عرفتها البلاد منذ حراك 20 فبراير سنة 2011.

🔥 الشرارة: من موت إلى حركة

كان مقتل محسن فكري نقطة تحول. لم يكن مجرد حادث عرضي، بل مثّل، في نظر المحتجين، صورة مركّزة لكل ما يعانونه: الحكرة، غياب العدالة، استغلال السلطة، وغياب التنمية. انطلقت الاحتجاجات بشكل عفوي، بقيادة شبان محليين، سرعان ما تحول بعضهم إلى رموز في ما سُمي لاحقًا بـ”حراك الريف”.

لم تكن هذه أولى لحظات الغضب في الريف، فالمنطقة لطالما احتفظت بذاكرة مقاومة وتاريخ من الصدامات مع السلطة المركزية، بدءًا من ثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي، إلى أحداث الناظور والحسيمة في ثمانينات القرن الماضي. لذلك، لم يكن الحراك مجرد ردة فعل آنية، بل تعبيرًا عن إحباطات متراكمة ناتجة عن سياسات التهميش والإقصاء التي عانى منها الريف لعقود.

🧭 مطالب الحراك: اجتماعية بامتياز

رغم الطابع السياسي الذي أضفاه الإعلام على الحراك، فإن مطالبه كانت اجتماعية وتنموية في جوهرها:

  • بناء مستشفى للأورام بالحسيمة، بعدما اضطر السكان لسنوات إلى التنقل مئات الكيلومترات لتلقي العلاج.
  • تحسين البنية التحتية للطرق والموانئ، والتي تعاني من عزلة وصعوبة في الوصول.
  • خلق فرص شغل للشباب العاطلين، خاصة في ظل غياب نسيج صناعي قوي في الإقليم.
  • رفع التهميش عن الإقليم، من خلال توزيع عادل للمشاريع الوطنية.
  • تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاسبة المسؤولين المحليين المتورطين في الفساد، والذين يُنظر إليهم كمصدر دائم للظلم اليومي.

كما طالب الحراك بتعليم يحترم هوية المنطقة، ومناهج دراسية تُدرج اللغة والثقافة الأمازيغية والريفية، بما يعزز الانتماء المحلي ويقوي التعددية الثقافية في المغرب.

📣 البعد الثقافي والهوياتي في الحراك

لم يكن الحراك مجرد احتجاج على الأوضاع الاجتماعية، بل حمل أيضًا بُعدًا هوياتيًا عميقًا. رفع المحتجون أعلام الريف التاريخية، ورددوا شعارات بالريفية، معبرين عن انتمائهم الجهوي، دون أن يعني ذلك تبني أطروحات انفصالية، كما رُوّج في بعض وسائل الإعلام.

هذا البعد الثقافي كشف عن حاجة عميقة للاعتراف بتاريخ المنطقة، ولإنصافها في السياسات الثقافية والتنموية، لا سيما وأن الريف لطالما عانى من تهميش مزدوج: تنموي ورمزي. كما أشار إلى شعور متزايد بعدم الإنصاف في الذاكرة الرسمية، حيث لا يتم الاحتفاء الكافي بمقاومي الريف ضد الاستعمار، ولا تُدمج سرديتهم في التاريخ الوطني الرسمي.

👥 قيادة الحراك: بين الرمزية والمواجهة

برز في مقدمة الحراك ناصر الزفزافي، وهو شاب من أبناء المدينة، يتمتع بخطابة قوية، وجرأة كبيرة في مواجهة السلطة. تمكن من تعبئة الآلاف في مسيرات سلمية استمرت لأشهر، دون أن تُسجّل أعمال عنف تُذكر من طرف المتظاهرين، رغم محاولات استفزازهم.

لم يكن الزفزافي وحده، بل ساندته أسماء أخرى مثل نبيل أحمجيق، المرتضى إعمراشن، محمد جلول وغيرهم، الذين لعبوا دورًا في تأطير الحراك، وإن بشكل غير منظم. وساهمت وسائل التواصل في إبراز وجوه لم تكن معروفة من قبل، لكنها أصبحت رموزًا شعبية تتحدث باسم فئة واسعة من المغاربة، لا سيما في الهوامش.

وقد تميز هؤلاء النشطاء بتنوع مشاربهم الفكرية والاجتماعية، بين متخرجين جامعيين، ومعلمين، وحرفيين، ما منح الحراك طابعًا شعبيًا شاملًا، وجعله أقرب إلى التعبير الجماعي غير المؤدلج.

🚔 تعامل الدولة: من التردد إلى القبضة الأمنية

في البداية، بدا أن الدولة تتعامل بحذر، وربما تريث. لم يكن هناك قمع مباشر، وصدرت تصريحات رسمية تدعو إلى التهدئة. لكن مع مرور الوقت، وازدياد الزخم الشعبي، تحوّلت المقاربة إلى أمنية صرف.

تم نشر قوات التدخل السريع، وأُغلقت مداخل المدينة، وتوالت الاعتقالات. وفي يونيو 2017، أُحيل العشرات من النشطاء إلى القضاء، وصدر في حقهم لاحقًا أحكام قاسية وصلت إلى 20 سنة سجنًا، ما خلف موجة صدمة واسعة داخل المجتمع المغربي.

رغم ذلك، استمرت التعبئة لفترة، إذ خرجت مظاهرات في مدن مغربية كبرى مثل الرباط، الدار البيضاء، فاس، وأكادير، تضامنًا مع معتقلي الحراك، ما أعطى الاحتجاج بُعدًا وطنيًا يتجاوز منطق الجهة، وحوّله إلى قضية رأي عام.

📰 التغطية الإعلامية: تضليل، تأطير، أو صمت؟

انقسم الإعلام المغربي في تغطيته للأحداث:

  • بعض القنوات الرسمية تجاهلت الحراك لفترات طويلة، أو اقتصرت على نشر بيانات رسمية تفتقر إلى التحليل.
  • وسائل أخرى اتهمت النشطاء بالتخريب والانفصال، وركّزت على خطاب التهديد للأمن العام.
  • بينما اكتفى عدد من المنابر المستقلة بالنقل الحذر والمجزأ، بسبب الخوف من المتابعة القضائية أو الضغط السياسي.

في المقابل، لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا مركزيًا في توثيق الحراك، وتداول مقاطعه وشعاراته، ما جعله حاضرًا في وعي المغاربة، رغم محاولات التعتيم. وقد ساهم ذلك في تدويل القضية، حيث تحدثت منظمات دولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية عن ممارسات الدولة تجاه النشطاء.

🌍 صدى الحراك في الخارج والجالية المغربية

لم يقتصر الحراك على الداخل، فقد خرجت مظاهرات داعمة له في عدد من العواصم الأوروبية، خصوصًا في صفوف الجالية المغربية في هولندا، بلجيكا، فرنسا، وألمانيا. ورفع المحتجون بالخارج نفس المطالب، مؤكدين على سلمية الحراك، ورافضين أي توصيفات تمس من نواياه.

كما شكل الحراك لحظة وعي لدى جزء من الجالية التي شعرت بالارتباط الوثيق بمناطقها الأصلية، وبأن التهميش الذي تعانيه لا يخص الداخل فقط، بل يمتد إلى إدراك الدولة لدورهم كمواطنين كاملي الحقوق.

وقد نظمت فعاليات ثقافية وسياسية في المهجر لشرح خلفيات الحراك، وتوعية الرأي العام الأوروبي، ما زاد من الضغط الحقوقي على الدولة المغربية في المنتديات الدولية.

⚖️ ما بعد الحراك: محاكمات وأسئلة مفتوحة

بعد أكثر من عام على اندلاع الاحتجاجات، هدأت الشوارع، لكن الجدل استمر:

  • هل كان يمكن الاستجابة لمطالب الحراك دون اللجوء إلى الاعتقالات؟
  • هل أخفقت الدولة في الإنصات لصوت “المغرب العميق”؟
  • هل كانت الأحكام القضائية منصفة، أم مبالغا فيها؟

شهدت المحاكمات تغطية حقوقية واسعة، وأثارت الأحكام استياءً شعبيًا ونقاشًا حادًا داخل الأوساط القانونية والسياسية. وطالبت هيئات مدنية عديدة بإطلاق سراح المعتقلين، أو على الأقل إعادة محاكمتهم في ظروف أكثر عدالة.

كما أطلقت الحكومة بعدها مشاريع تنموية في المنطقة، ضمن ما عُرف ببرنامج “الحسيمة منارة المتوسط”، لكنها واجهت بدورها انتقادات تتعلق بسرعة الإنجاز، وغياب الشفافية، وارتباط بعض المشاريع بمسؤولين تمت متابعتهم لاحقًا بالتقصير، بل أن تقارير رسمية حمّلت بعضهم مسؤولية تأخير تنفيذ المشاريع، مما أدى إلى غضب ملكي عبّر عنه علنًا في خطابات رسمية.

📚 في الذاكرة الوطنية: حراك بلا سلاح

تُعد احتجاجات الحسيمة من أبرز تعبيرات الغضب الاجتماعي في مغرب ما بعد 2011. تميّزت بسلميتها، بطابعها المحلي، وبتعبئتها الشعبية الواسعة، وبالرسائل القوية التي وجهتها للدولة والمجتمع على حد سواء.

وقد فتحت هذه الاحتجاجات نقاشًا واسعًا حول طبيعة العدالة الاجتماعية، وعمق الفوارق بين المركز والجهات، وحدود الصبر الشعبي على التهميش والبيروقراطية، كما كشفت عن غياب قنوات الوساطة بين الدولة والمجتمع، وهو ما دفع بالمواطنين إلى الخروج للاحتجاج بدل مخاطبة المؤسسات.

إن الحديث عن “حراك الريف” لم يعد فقط توصيفًا لحركة اجتماعية، بل أصبح مرآة تعكس خللًا هيكليًا في العلاقة بين الدولة ومواطنيها، وحاجة مستمرة لمراجعة السياسات العمومية على ضوء الكرامة، التنمية، والعدالة.

🔑كلمات مرتبطة * احتجاجات الحسيمة، حراك الريف، ناصر الزفزافي، محسن فكري، الريف المغربي، الاحتجاجات في المغرب، الحركات الاجتماعية، محاكمات نشطاء الحراك، الحسيمة منارة المتوسط، الجالية المغربية في الخارج، التنمية الجهوية، العدالة الاجتماعية

أضف تعليق