في صباح يوم الثلاثاء 23 مارس 1965، اهتزت مدينة الدار البيضاء على وقع واحدة من أكثر اللحظات دموية في تاريخ المغرب المعاصر. بدأت القصة بمظاهرة طلابية سلمية احتجاجًا على قرارات تعليمية مجحفة، لكن سرعان ما تحولت إلى انتفاضة شعبية شاملة، قابلتها الدولة بقمع عنيف أودى بحياة العشرات، وربما المئات، من المواطنين. لحظة كشفت هشاشة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وأرخت بظلالها الكثيفة على العقود التي تلتها.
🧭 الخلفية الاجتماعية والسياسية: مغرب على صفيح ساخن
بعد أقل من عقد على الاستقلال، كان المغرب يعيش تناقضات حادة بين الطموحات الشعبية لبناء دولة عادلة، وبين توجه الدولة نحو تركيز السلطة وتوسيع نفوذ النخبة الحاكمة. ورغم أن الخطاب الرسمي كان يتحدث عن التنمية وبناء المؤسسات، فإن الواقع اليومي في الأحياء الشعبية كان يسير في اتجاه مغاير تمامًا: بطالة، فقر مدقع، تفشي العشوائيات، وانعدام الأفق لدى الآلاف من الشباب.
في قطاع التعليم، كان الاحتقان يتصاعد تدريجيًا، خاصة بعد قرارات وزارة التربية التي قلّصت من حق التلاميذ الذين تجاوزوا سن السادسة عشرة في متابعة دراستهم الثانوية. هذا القرار، الذي جاء دون سابق إنذار، بدا للكثيرين وكأنه استهداف مباشر لأبناء الطبقات الشعبية، الذين كانوا يرون في التعليم آخر أمل للترقي الاجتماعي. وهكذا، تحوّل الغضب الصامت إلى بركان شعبي في لحظة فارقة.
🔥 الشرارة الأولى: طلاب في الشارع
في 22 مارس 1965، خرج آلاف التلاميذ من مؤسسات التعليم العمومي في مسيرة احتجاجية جابت شوارع الدار البيضاء. كانت المظاهرة سلمية، مرفوعة الشعارات، منظمة الصفوف، يقودها تلاميذ في سن المراهقة، رافعين شعارات تطالب بالحق في التعليم والكرامة.
لكن مع بزوغ فجر 23 مارس، تغير المشهد. خرجت حشود غفيرة من سكان الأحياء الهامشية، ممن رأوا في تلك التظاهرة تعبيرًا صادقًا عن معاناتهم اليومية. سرعان ما اتسعت رقعة الاحتجاج، وتحولت إلى انتفاضة شعبية شملت أحياء مثل درب السلطان، الحي المحمدي، كريان سنطرال، وسيدي مومن. انضمت فئات اجتماعية متنوعة: عمال، صغار تجار، عاطلون، وحتى أطفال ونساء.
الشعارات لم تعد تقتصر على المطالب التعليمية، بل رفعت شعارات تندد بالفقر والظلم والفساد، وطالبت بتوزيع عادل للثروات، وبحياة كريمة لأبناء الشعب. كانت لحظة نادرة من الإجماع الشعبي، تجمعت فيها أصوات الصامتين.
🚔 الرد الأمني: حين حلّ الرصاص محل الحوار
فوجئت الدولة بزخم الاحتجاج، فردّت بأسلوب عسكري صادم. نُشرت وحدات الجيش، بقيادة الجنرال أوفقير، في شوارع المدينة، وأُعلنت حالة الحصار غير المعلنة. تمركزت الدبابات عند المداخل الرئيسية للمدينة، وحلقت المروحيات فوق الأحياء الشعبية. بدأ إطلاق النار الحي دون سابق إنذار.
قُتل المئات – حسب تقديرات شهود عيان – واعتُقل المئات. تم التنكيل بجثث الضحايا، ونُقل العديد منهم إلى مستشفيات لم تتمكن من استيعاب الأعداد الهائلة. وأفادت شهادات لاحقة أن بعض الجثث دُفنت جماعيًا دون توثيق، في أماكن مجهولة.
لم يتم فتح أي تحقيق رسمي. بل إن بعض الخطابات الرسمية بررت ما حدث على أنه محاولة لحفظ النظام العام. ووُصف المتظاهرون بأنهم “مخربون” و”مغرر بهم”، في تكرار لنمط الخطاب الأمني الذي أصبح مألوفًا فيما بعد.
📰 الإعلام والصمت الرسمي
غابت التغطية الحقيقية للحدث في الإعلام الرسمي. لم يُذكر عدد الضحايا، ولم تُعرض صور للمجزرة، ولم يُسمح للصحف بالحديث عن حجم الدمار البشري والمادي. تم تجاهل معاناة آلاف الأسر التي فقدت أبناءها أو اعتُقل معيلوها.
في المقابل، حاولت بعض الصحف الحزبية نقل الحدث بطرق ملتوية، لكن الرقابة كانت صارمة. ولم يتمكن سوى القليل من المثقفين والمناضلين من توثيق شهادات من عاشوا ذلك اليوم الأسود، مثل عبد اللطيف اللعبي، الذي كتب لاحقًا عن “الدار البيضاء الجريحة”.
📚 الأثر السياسي والاجتماعي بعيد المدى
كانت أحداث 23 مارس لحظة مفصلية في التاريخ السياسي المغربي. فقد دشّنت مرحلة جديدة من القمع، أدخلت البلاد في ما عُرف لاحقًا بـ”سنوات الرصاص”. تم إضعاف الأحزاب المعارضة، خصوصًا حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وتمت تصفية العديد من المناضلين، أو نفيهم، أو الزج بهم في السجون.
كما أدى القمع العنيف إلى دفع جزء من الشباب نحو خيارات أكثر راديكالية، ظهرت في شكل حركات ماركسية سرية، ومنظمات مسلحة، مثل “إلى الأمام” و”23 مارس”، التي حملت اسم المناسبة نفسها كتعبير عن تحول الوعي الجماعي إلى قناعة بأن الإصلاح من داخل النظام أصبح مستحيلًا.
أما على المستوى الاجتماعي، فقد فقد المواطن المغربي ثقته في الدولة، وانكفأ على ذاته، وبدأت تنشأ ثقافة الخوف والصمت، التي استمرت عقودًا، وانعكست في الحياة اليومية، وفي علاقة المواطن بالمؤسسة.
📌 ذكرى غير معلنة: لماذا يُراد طمسها؟
رغم مرور عقود على المجزرة، لا تحظى أحداث 23 مارس بأي اعتراف رسمي، ولا تُدرَّس في المناهج، ولا تُذكر في المناسبات الوطنية. هي لحظة من التاريخ المنسي أو المُغيّب، تثير الحرج أكثر مما تثير الفخر.
لكن، في ذاكرة الضحايا وأسرهم، وفي وجدان من عاشوا الحدث أو ورثوه سردًا، تبقى تلك الأيام علامة سوداء لا تُمحى. ولهذا، تواصل بعض الجمعيات الحقوقية والمثقفين التذكير بها، والمطالبة بالاعتراف الرسمي، والعدالة الرمزية، والحقيقة الكاملة.
في ظل مسلسل المصالحة الوطنية الذي بدأ مع العهد الجديد، يُطرح السؤال: لماذا لم يُفتح هذا الملف بعد؟ ولماذا تُستثنى هذه الصفحة من الإنصاف؟
✅ خاتمة: من التاريخ نتعلم، لا نُخفي
أحداث 23 مارس 1965 ليست مجرد صفحة سوداء، بل مرآة لما يمكن أن يحدث عندما تغيب العدالة، ويُهمّش المواطن، وتُقابل المطالب بالقوة. في زمن يطمح فيه المغرب لبناء دولة حديثة، ديمقراطية، متصالحة مع ماضيها، يظل الاعتراف بهذه اللحظات واجبًا أخلاقيًا وتاريخيًا.
فالتاريخ لا يُمحى بالصمت، بل يُصحّح بالاعتراف، ويوثّق بالحوار، ويُستثمر لصناعة وعي وطني جديد لا يُقصي أحدًا.
🔑 الكلمات المتداولة: أحداث 23 مارس، مجزرة الدار البيضاء، التاريخ السياسي المغربي، الجنرال أوفقير، احتجاجات المغرب، التعليم بعد الاستقلال، مظاهرات 1965، سنوات الرصاص، القمع في المغرب، حركات اليسار المغربي، الاتحاد الوطني للقوات الشعبية