زلزال أكادير 1960… حين سقطت المدينة وبقي الصوت

🌍 1. تمهيد: بين الجبل والمحيط… أكادير الجميلة التي انكسرت

كانت أكادير، قبل أن تتهدم، مدينةً تنام بين حضن الجبل وملوحة الأطلسي. وادعة، هادئة، بشوارعها النظيفة، وبيوتها البيضاء، ونخيلها المتمايل على إيقاع نسيم البحر. لم تكن من أكبر مدن المغرب آنذاك، لكنها كانت من أجملها، تُغري الشعراء والرسامين، وتستقبل الزوّار القادمين من مراكش والصويرة بحثًا عن الراحة والجمال.

في الخمسينيات، بدأت المدينة تعرف حركية عمرانية وتجارية متسارعة، بفضل موقعها الاستراتيجي كميناء رئيسي، وفضائها السياحي الفطري. كان الجميع يتنبأ لها بمستقبل مشرق. لكن ما لم يكن في الحسبان أن هذه المدينة، التي بُنيت على شفا صدع زلزالي خامد، كانت تخفي مصيرًا أسود في جوف الأرض.

في ليلة واحدة، وتحديدًا في آخر يوم من شهر فبراير عام 1960، توقفت الحياة في أكادير. لم يكن الأمر انفجارًا ولا حربًا، بل رجّة زلزالية مدمّرة قلبت المدينة رأسًا على عقب، وأسقطت الآلاف من ساكنيها في ثوانٍ معدودة. ومنذ تلك الليلة، دخل اسم أكادير كتب الكوارث الكبرى في القرن العشرين، ليس فقط بسبب عدد القتلى، بل بسبب طريقة السقوط المفاجئ والصدمة التي هزت البلاد.

هذا المقال يعيد فتح صفحة منسية من الذاكرة الوطنية، لا لنبكي على الأطلال، بل لنفهم كيف تهوي مدينة، وكيف تنهض من تحت الركام… ولنعرف لماذا يقول التاريخ إن المغرب الحديث بدأ من أكادير، لا من العاصمة.

🕰️ 2. 29 فبراير 1960: حين اهتزّ المغرب

ليلة الاثنين، 29 فبراير 1960، كانت أكادير تستعد لتوديع شهرها الأخير من الشتاء، على إيقاع سكون معتاد. كانت الساعة تشير إلى الساعة 11 و40 دقيقة ليلاً، حين وقع ما لم يكن في الحسبان. هزّة أرضية عنيفة، مباغتة، صعدت من الأعماق كوحشٍ صامت، لتفترس المدينة في أقل من 13 ثانية.

لم يكن هناك أي إنذار، ولا صرخات تحذير، فقط أرض تنشق فجأة، وسماء تنغلق على من فيها. تصدّعت المباني كأنها من ورق، وتحولت الأزقة الضيقة إلى شقوق دامية، تطايرت الحجارة، وانهارت العمارات، وسقطت آلاف الأرواح تحت الأنقاض وهي نائمة، أو تركض مذعورة في عتمة الليل.

بلغت قوة الزلزال 5.7 درجات على مقياس ريختر، لكنها كانت سطحية للغاية، ومركزها لا يبعد سوى كيلومترات قليلة عن المدينة، ما جعل الدمار مضاعفًا. المناطق الأكثر تضررًا كانت الأحياء القديمة، خاصة تالبرجت، فونتي، وبنسركاو، حيث كانت البنايات هشّة، مبنية من الطوب غير المسلح، ومكدّسة فوق بعضها.

في دقائق معدودة، تحولت أكادير إلى أنقاض رمادية تئن تحتها الحياة. خطوط الهاتف انقطعت، الكهرباء توقفت، الطرق سُدّت، والميناء سقطت رافعاته في البحر. ولم يعلم باقي المغاربة بشيء حتى طلوع الفجر، حين خرج أول نداء استغاثة من الإذاعة:

“أكادير دُمّرت. أنقذوا من بقي حيًا.”

وما إن عمّ الخبر، حتى انتقل الزلزال من تحت الأرض إلى قلوب المغاربة، فارتجّ الوجدان الوطني كله. لم يكن أحد يصدق أن مدينة بكاملها قد سقطت، أن آلاف الناس قد اختفوا بين غفوة وصرخة، أن المغرب فقد في ليلة واحدة جزءًا من روحه.

🧱 3. دمار شامل: سقوط المدينة في ثلاث عشرة ثانية

حين يُقال إن أكادير دُمّرت في “ثلاث عشرة ثانية”، فذلك ليس توصيفًا شعريًا، بل حقيقة هندسية مرعبة. المدينة لم تنهَر تدريجيًا، بل انهارت دفعة واحدة، كما لو أن يدًا خفية رفعتها ثم أسقطتها بقسوة لا تُصدَّق. في ظرف لا يتعدى ربع دقيقة، كانت أكادير قد اختفت تقريبًا عن وجه الأرض.

تشير التقديرات إلى أن أكثر من 90% من مباني المدينة قد تهاوت، خصوصًا في حي تالبرجت، الذي سُوِّي بالأرض بالكامل، وحي فونتي، الذي كانت فيه فنادق راقية واستثمارات سياحية أولية، تحول إلى ركام ودخان. العمارات الخرسانية لم تصمد، والمنازل المبنية بالطين والآجُر لم يكن لها أي فرصة.

مظاهر الدمار كانت صادمة إلى حدّ الجنون. الشوارع لم تعد تُعرف من كثرة الركام. البيوت أصبحت تلالاً من الحجارة المكسّرة. حتى مقبرة المدينة لم تسلم، إذ انشقّت الأرض تحتها وتداخلت قبورها. وأما الميناء، فقد اختفى جزء من أرصفته داخل البحر، وتحطمت القوارب كأنها لعب أطفال.

أما الناس، فقد انقلبت حياتهم من دفء البيوت إلى كابوس الحصار تحت الأنقاض. عشرات الآلاف من الجرحى والمفقودين، وصيحات الاستغاثة تنطلق من تحت الردم، تتلاشى ثم تختفي. في بعض الحالات، ظلّ الناس يستمعون لأصوات تحت الأنقاض لأيام، دون قدرة على إنقاذهم، في ظل غياب المعدات والفرق المختصة.

تقديرات الخسائر البشرية اختلفت، لكن الرقم المتفق عليه يظل أكثر من 12,000 قتيل، و20,000 جريح ومصاب، في مدينة لم يكن عدد سكانها حينها يتجاوز 45,000 نسمة. أي أن ثلث المدينة تقريبًا مات في ليلة واحدة.

كان الزلزال رسالة دامغة، لا للناس فقط، بل للدولة المغربية الفتيّة: أن الإعمار لا يعني فقط البناء، بل الوعي بالمخاطر، والهندسة، والمقاومة، وأن المدن، مهما بدت جميلة، يمكن أن تكون هشة كقصائد حبّ على ورق.

🏥 4. الكارثة الصحية والإنسانية: أكادير بلا مستشفيات

بعد ثلاث عشرة ثانية من الزلزال، لم تعد في أكادير مدينة… ولا مشفى. تحوّل كل شيء إلى ركام، بما في ذلك البنية الصحية الهشة أصلًا. المستشفى المركزي للمدينة انهار تمامًا، ودفن معه طاقمه الطبي ومرضاه، تاركًا المدينة الجريحة بلا مكان واحد لإسعاف المصابين.

في الساعات الأولى، كانت المشاهد تفوق قدرة العقل على الاستيعاب: جرحى ينزفون في الشوارع، أمهات يبحثن عن أبنائهن بين الأنقاض، أطفال يصرخون بلا من يسمع، وناجون يمشون كالذهولين، غارقين في الغبار والدم، يحملون مصابيهم على ألواح خشبية، أو يجرّونهم على البطانيات.

الطرقات إلى أكادير كانت شبه مقطوعة، ما جعل وصول فرق الإسعاف القادمة من مراكش أو الدار البيضاء يتأخر لساعات طويلة، بل أحيانًا أيامًا. ومع كل تأخر، كانت الأرواح تُزهق بلا ذنب، لا لشيء سوى أن المدينة لم تكن مجهّزة لأي طارئ، ولا الدولة تملك خطة لمواجهة هكذا كارثة.

تم تحويل بعض الساحات المفتوحة إلى “مستشفيات ميدانية بدائية”، وعُولج الآلاف في ظروف مأساوية، تحت الخيام أو في العراء، باستخدام معدات بسيطة وأدوات مرتجلة. أما الموتى، فقد أصبحوا أكثر من أن يُدفنوا ببطء، فحُفرت لهم مقابر جماعية، بعضها دون أسماء، ودُفن الكثيرون في أكياس بلاستيكية، بعدما اختلطت الأجساد ولم تُعرف الهويات.

وصلت مساعدات فرنسية وأمريكية وإسبانية بعد نداء استغاثة دولي، لكنها وصلت إلى مدينة لم يعد فيها ما يمكن إنقاذه، سوى من ظل يتنفس بين الركام. ولأيام طويلة، ظلت أكادير مدينة منكسرة، صامتة، لا تسمع فيها إلا أصوات الحفر والأنين.

ولأن الكارثة كانت أكبر من الاستيعاب، تساءل كثيرون حينها:

“كيف لمدينة مغربية بكاملها أن تموت… دون أن تكون هناك خطة، أو بديل، أو حماية؟”
كان ذلك السؤال بداية وعي جماعي جديد حول قيمة الحياة، وهشاشة الحلم حين يُبنى دون أساس.

👁️ 5. شهادات من تحت الأنقاض

في قلب الكارثة، وبين أنقاض البيوت المهدّمة، كانت هناك أصوات… أصوات لا تنادي أحدًا، بل تحاول فقط أن تقول: “ما زلنا أحياء”. شهادات الناجين من زلزال أكادير 1960 ليست فقط مؤلمة، بل تُجسّد رعبًا لا يمكن نسيانه، رعب من عاشوا الموت على قيد الحياة، وخرجوا من تحت الركام حاملين في عيونهم صورًا لا تندثر.

إحدى الناجيات، وكانت طفلة حينها في التاسعة، روت بعد أربعين سنة:

كنا نائمين. سمعت صرخة، ثم شعرت بالأرض تهتز. البيت وقع فوقنا. بقيت ثلاث ليالٍ تحت السقف، أسمع أبي وأمي يتكلمان ثم يصمتان. كنت أظن أني سأموت، لكن جنديًا فرنسيًا سمع صوتي وأنا أتمتم بسورة الفاتحة.

رجل آخر من بنسركاو، نجا بأعجوبة، قال:

كنت في الشارع عندما بدأ كل شيء. رأيت البنايات تتمايل، ثم تنهار كعلب كرتون. صرخت، جريت، لكن خلفي كان الناس يسقطون مثل أوراق الخريف.

وحتى رجال الإنقاذ، الذين وصلوا بعد الزلزال، لم يخرجوا سالمين من التجربة النفسية. أحد الجنود المغاربة كتب في مذكرته:

ما رأيناه في أكادير لا يُروى. كنا نخرج الأطفال من تحت الأنقاض وهم يحتضنون ألعابهم. ونساء يطلبن دفن أزواجهن قبل أن ينفجرن من الحزن. لم نكن نعرف هل نُسعف، أم نُبكي، أم نحفر.

كانت شهادات تحت الأنقاض بمثابة نبوءات من قلب الجحيم، تصرخ في وجه الإهمال، وفي وجه زهو الحداثة الزائفة التي لم تُحصّن الناس. لقد تكلم الضحايا من تحت الركام، لا فقط ليُسمعوا صوتهم، بل ليقولوا لنا، نحن أبناء بعد الكارثة: لا تبنوا أحلامكم فوق رملٍ هشّ.

📻 6. الملك الحسن الثاني يُعلن: “لنبنِ أكادير من جديد”

بعد ساعات فقط من الزلزال، وبينما كان المغرب كله يعيش حالة من الذهول والحداد، خرج ولي العهد آنذاك، الأمير مولاي الحسن، بخطاب قصير لكنه حاسم، عبر الإذاعة الوطنية، قال فيه بعبارة ستدخل التاريخ:

“إذا حكمت الأقدار بخراب أكادير، فإن بنائها موكول إلى إرادتنا وإيماننا.”

بهذه الكلمات، بدأ المغرب صفحة جديدة من تاريخه: صفحة بناء ما تهدّم، لا فقط من الحجارة، بل من الثقة والإرادة الوطنية. وبعد أيام فقط من الخطاب، زار مولاي الحسن موقع الكارثة شخصيًا، متجولًا بين الأنقاض، مستمعًا للضحايا، وواقفًا على فظاعة المشهد، في زيارة لها رمزية كبيرة في وقت لم يكن يُنتظر فيه من الدولة سوى الانكماش.

وفي أول قرار سياسي عقب الزلزال، أمر الملك محمد الخامس – والد الحسن الثاني – بتشكيل لجنة عليا لإعادة الإعمار، وأسندت إلى ولي العهد مسؤولية الإشراف الكامل على العملية، في ما بدا أنه تفويض سياسي واضح لمولاي الحسن لقيادة مشروع وطني غير مسبوق.
كان ذلك القرار أول تجسيد عملي لفكرة الدولة الحديثة: دولة لا تكتفي بالحزن، بل تنهض وتبني.

تم إعلان أكادير منطقة منكوبة، وتم تجميد جميع المعاملات العقارية، ومنع البناء في المدينة القديمة. ثم تقرر نقل المدينة إلى موقع جديد، شمال غرب المنطقة المنكوبة، على أرض صلبة وأبعد عن مركز الصدع الزلزالي، وتم اعتماد معايير بناء حديثة صارمة للمرة الأولى في المغرب، مستلهمة من التجربة اليابانية.

كما استُدعي خبراء من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وتم إطلاق مشروع “أكادير الجديدة” سنة 1961، بشراكة بين الدولة ومهندسين مغاربة وأجانب، في واحدة من أسرع عمليات إعادة الإعمار في تاريخ ما بعد الكوارث.

كان خطاب الحسن الثاني بذرة في صحراء الألم، تحوّلت بسرعة إلى خطة، ثم إلى مدينة، ثم إلى رمز. أكادير التي سقطت في ثلاث عشرة ثانية، بدأت تُبعث من جديد بإرادة سياسية وشعبية قلّ نظيرها.

🏗️ 7. من الرماد إلى الأمل: كيف أُعيد إعمار أكادير؟

بدأت عملية إعادة إعمار أكادير وسط مشهد مأساوي، لكنه محمّل بإرادة جماعية نادرة. كانت المدينة قد دُمّرت بالكامل تقريبًا، لكن القرار الملكي كان واضحًا: لن تُمحى أكادير من الخريطة، بل ستُبنى من جديد، أقوى، وأجمل، وأكثر أمانًا.

تم تشكيل “اللجنة الوطنية لإعادة إعمار أكادير”، بقيادة الأمير مولاي الحسن، وضمت مهندسين ومعماريين وخبراء زلازل مغاربة وأجانب. وبتنسيق مع الأمم المتحدة ودول مانحة، تقرر أن يُعاد بناء المدينة في موقع جديد يبعد قرابة كيلومترين عن موقع الكارثة، فوق صخور أكثر صلابة، وبمعايير مقاومة للزلازل.

أطلق على المشروع اسم “أكادير الجديدة”، وتم تقسيمه إلى مراحل دقيقة:

  • 🏘️ إنشاء أحياء سكنية مقاومة للزلازل مثل “الداخلة” و”فونتي الجديدة”
  • 🏢 تصميم مدينة عصرية بهندسة موحّدة تعتمد البساطة، والمساحات المفتوحة، والتهوية
  • 🏫 بناء مؤسسات تعليمية وصحية حديثة لتعويض المفقودة
  • ⚓ إعادة بناء الميناء وتحويله إلى قطب اقتصادي حديث

اعتمدت عملية الإعمار على أسلوب المعمار الوظيفي الحداثي، بقيادة المهندس الفرنسي “ميشيل إيكوشار” وآخرين، في ما أصبح لاحقًا نموذجًا لمدن ما بعد الكوارث. وقد وُضعت قوانين عمرانية جديدة، تمنع البناء العشوائي، وتشترط معايير مضادة للزلازل، ما جعل أكادير أول مدينة مغربية تُبنى بالكامل وفق تخطيط حضري صارم.

الأهم من ذلك، أن الإعمار لم يكن تقنيًا فقط، بل اجتماعيًا ونفسيًا. فقد تم منح عائلات الضحايا أراضي وسكنًا مؤقتًا، ونُظمت حملات وطنية للتضامن، جمعت تبرعات ضخمة من الشعب المغربي، بل إن أطفال المدارس في مدن بعيدة مثل وجدة والناظور كتبوا رسائل تضامن لأطفال أكادير.

في غضون خمس سنوات، كانت أكادير قد بُعثت من تحت الرماد، لا كمدينة فقط، بل كرمز للصمود والتحدي. أصبحت المدينة الحديثة واجهة جديدة للمغرب، تستقبل السياح، وتُدهشهم بجمالها المعماري، دون أن تخفي جرحها القديم، بل تحمله كوشمٍ على قلبها لا لتتألم، بل لتتذكر.

🧠 8. أثر الكارثة على الوعي الزلزالي في المغرب

قبل زلزال أكادير، كان الحديث عن الزلازل في المغرب أشبه بالخرافة، أو من “أفعال الطبيعة الغاضبة” التي تُروى في المجالس ثم تُنسى. لم يكن في الثقافة الرسمية ولا الشعبية وعي حقيقي بمخاطر النشاط الزلزالي، رغم أن المغرب يقع في منطقة جيولوجية نشطة، على حدود الصفيحة الإفريقية والأوراسية.

لكن زلزال 1960 غيّر هذا التصور جذريًا. لقد تحوّلت الكارثة إلى نقطة تحوّل في علاقة المغاربة مع الأرض التي يسكنونها. الدولة، التي فُجئت بحجم الدمار، بدأت تعيد النظر في تصوراتها حول العمران والتخطيط، وشرعت لأول مرة في إدماج معايير مقاومة الزلازل في القوانين الهندسية.

من بين أبرز الآثار:

  • 📐 ظهور أولى الضوابط الزلزالية في دفاتر التحملات الخاصة بالبناء، خصوصًا في المدن المهددة
  • 🧱 إعادة مراجعة تصاميم المدارس والمستشفيات لتكون قادرة على الصمود في وجه الهزات الأرضية
  • 🏢 إنشاء لجنة تقنية وطنية لمراقبة جودة مواد البناء والمقاومة الهيكلية
  • 📊 إدماج علم الزلازل في المناهج الجامعية والمعاهد الهندسية، وتشجيع الأبحاث في هذا المجال

ومع ذلك، فإن الوعي الشعبي ظل ضعيفًا لسنوات، وظل يُنظر للزلازل كـ”قضاء وقدر”، لا كظواهر يمكن التحضير لها والوقاية من آثارها. ولم تُطلق الدولة حملات شاملة للتثقيف الزلزالي، بل ظلّ التعامل مع الزلازل ردّ فعل بعد الكارثة، لا استعدادًا قبلها.

ولعل أهم دروس أكادير أن الدولة يمكن أن تنهض بعد الكارثة، لكنها لن تمنع الكارثة ما لم تكن هناك سياسة وقائية صارمة. فحين هزّت الأرض مدينة الحسيمة سنة 2004، ثم لاحقًا زلزال الحوز سنة 2023، عاد شبح أكادير إلى الأذهان، وعادت الأسئلة:

هل استفدنا حقًا من زلزال أكادير؟ أم أن الذاكرة قصيرة، والدرس لم يُحفظ؟

الجواب لا يزال معلقًا، لكن الحقيقة الثابتة أن زلزال أكادير أسّس لبداية وعي زلزالي جديد في المغرب، حتى لو تأخر هذا الوعي عن أن يصبح ثقافة راسخة في كل بيت.

📝 9. الخاتمة: ماذا تبقى من زلزال أكادير؟

ما الذي تبقّى من زلزال أكادير؟
أكثر من ستين عامًا مرّت على تلك الليلة المشؤومة، لكن صوتها لا يزال يتردّد في أزقة الذاكرة. لم تعد المباني المهدّمة قائمة، ولم تبقَ الجثث تحت الأنقاض، لكن الزلزال لا يُقاس فقط بما تهدّم، بل بما لا يزال يرتجّ في النفوس.

تبقّت قصص تُروى في صالونات كبار السن، وأدعية تهمس بها الجدّات كلما سمعن عن هزّة أرضية في مكان ما. تبقّت صور من الجرائد القديمة، وعناوين مؤلمة، ومقاطع أرشيفية باهتة تُعرض أحيانًا في التلفزة الرسمية، كأنها تحاول التذكير… أو التخفيف من ثقل النسيان.

تبقّى أيضًا درسٌ كبيرٌ عن المعمار، وعن السياسة، وعن الإنسان. درسٌ علّمنا أن المدن لا تبنى فقط بالإسمنت، بل بالضمير. وأن المواطن لا يحتاج فقط إلى مسكن، بل إلى أمنٍ حقيقي، يبدأ من تحت الأرض: من احترام القوانين، ومنع الغش في البناء، ووضع خطط طوارئ، وتثقيف السكان.

وربما الأهم مما تبقى، هو أن أكادير اليوم، بحداثتها ونظافتها وتنظيمها، ليست فقط مدينة مغربية جميلة، بل نصبٌ تذكاريّ حيّ على مقاومة الموت. مدينةٌ بُنيت فوق الرماد، لكنها لم تُدفن فيه. كل زنقة فيها، كل مبنى، كل حجر، يقول:

“هنا، مرّ الزلزال… لكننا بقينا.”

ومن واجبنا، نحن الذين لم نرَ تلك الليلة، أن نكتب عنها، أن نُعلّم أبناءنا ما جرى، لا لنخاف، بل لنحترز، ولا لنرثي، بل لنفهم.
فالتاريخ لا يحمي من الكوارث، لكنه يُعلّم كيف ننهض بعدها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top