في العقود التي عرفت في المغرب باسم “سنوات الرصاص”، لم يكن المعتقلون السياسيون فقط ضحايا للتعذيب والاعتقال، بل كانوا أيضًا شهودًا على عصر كامل حاولت الدولة محوه من الذاكرة الجماعية. ومن قلب الزنازين الباردة، وُلد أدب السجون كأحد أسمى أشكال المقاومة الثقافية. كتابات حملت الألم، ودوّنت الصمت، ورفضت النسيان. لقد صار القلم، لا السلاح، هو الأداة التي كشفت عن أكثر الفصول دموية وظلمة في تاريخ المغرب الحديث.
🧭 ما هو أدب السجون؟ ولماذا برز في المغرب؟
أدب السجون هو ذلك الشكل الأدبي الذي يُنتجه المعتقلون السياسيون أو من عاشوا تجربة الاعتقال في ظروف استثنائية. يتجاوز الجانب التوثيقي إلى التعبير الفني، حيث يتحول السجن إلى فضاء داخلي يُستعاد بالكلمات. في المغرب، برز هذا الأدب بقوة بعد انكشاف جرائم تازمامارت ودرب مولاي الشريف، حيث خرج المعتقلون من الظل وبدأوا في الكتابة، لا انتقامًا، بل استعادةً للكرامة، وبحثًا عن معنى للألم، ولبنة أولى لبناء ذاكرة جماعية مضادة للنسيان الرسمي.
📚 أبرز الأعمال المغربية في أدب السجون:
- “الزنزانة رقم 10” – أحمد المرزوقي: شهادة صادمة من معتقل تازمامارت، تصف 18 سنة من الظلمة والعزلة والبرد والجوع والموت البطيء.
- “حديث العتمة” – عبد اللطيف اللعبي: شاعر ومناضل يساري، يحكي تجربته في درب مولاي الشريف، بأسلوب شعري مقاوم.
- “يوميات قلعة المنفى” – عبد القادر الشاوي: مزيج بين التوثيق الشخصي والسرد الذاتي الفلسفي.
- “تلك العتمة الباهرة” – الطاهر بن جلون: رواية فازت بجائزة الغونكور، مستوحاة من شهادة المعتقل عزيز بنبين، تسرد مأساة تازمامارت من منظور وجودي.
- “أشواك الرمل” – عبد العزيز بنزاكور: تجربة في السجن تكشف الواقع النفسي للمعتقلين وتطرح سؤال العدالة.
- “تحت الجلد” – فاطمة الإفريقي: تعبير نسوي جريء عن تجربة الاعتقال، الجسد، والمقاومة.
🖋️ اللغة والأسلوب: من الألم إلى الجمال
اللغة في أدب السجون تختلف عن باقي الأشكال الأدبية:
- هي لغة مشبعة بالصدق، بعيدة عن البلاغة المصطنعة.
- تنقل تفاصيل التعذيب، القهر، الرعب، الحنين، الجنون، الانهيار، والأمل.
- تنحو نحو الرمزية أحيانًا، والسرد التوثيقي أحيانًا أخرى.
- تستند إلى ضمير المتكلم، وتعتمد في الغالب على البناء الزمني التراكمي.
وتتخلل هذه النصوص تأملات فلسفية حول الموت، الزمن، الجسد، الذاكرة، والخلاص.
📢 دور أدب السجون في كسر الصمت الرسمي
حين منعت الدولة الإعلام، وتجاهلت المؤسسات، ورفضت المحاكم الاعتراف، جاء أدب السجون ليقول: “لقد كنا هنا، ولم نُكسر بالكامل”.
- كشف عن أسماء مراكز الاعتقال السرية.
- وثّق يوميات المعتقلين في ظروف غير إنسانية.
- فضح أسماء الجلادين، والتواطؤ المؤسساتي معهم.
- ساهم في إطلاق أولى الحملات الحقوقية الوطنية والدولية من أجل إغلاق مراكز الاعتقال.
- مهّد الطريق لظهور فكرة العدالة الانتقالية.
👩🦰 النساء في أدب السجون: صوت منسيّ عاد بقوة
رغم الطابع الذكوري الذي طبع أغلب الشهادات الأدبية حول الاعتقال، فإن عدداً من النساء المغربيات خضن تجربة السجون في ظروف لا تقل قسوة عن الرجال، وأحيانا أشد فظاعة، نظراً لطبيعة العنف الجسدي والرمزي الذي مورِس عليهن.
✒️ أبرز الكاتبات والناجيات:
- فاطمة الإفريقي: كشفت عن معاناة المعتقلات داخل الزنازين، وحوّلت أجساد النساء من أدوات قهر إلى صفحات تُروى.
- ربيعة المنصوري: محامية وناشطة، اعتُقلت بسبب دفاعها عن المعتقلين اليساريين.
- عائشة الشنا: وإن لم تُعتقل، إلا أنها كانت من الأصوات النسائية التي وثّقت بصمت صراخ النساء المهمشات زمن القمع.
✍️ خصوصية الكتابة النسائية:
- تعرّي العلاقات بين الجلاد والمجتمع.
- تكشف البعد العاطفي والعائلي للتجربة.
- تنقل الألم من الزنزانة إلى جسد الأم والزوجة والأخت.
👩👧👦 شهادات الأمهات والزوجات: انتظار لا يُحتمل
أدب السجون لا يقتصر على من دخلوها فقط، بل يمتد إلى من بقوا خلف الأسوار، ينتظرون كلمة، رسالة، أو حتى إشاعة:
- أمهات قضين سنوات أمام تازمامارت دون أن يعرفن مصير أبنائهن.
- زوجات طُلقن قسرًا أو اضطررن لتربية أطفال في غياب الزوج.
- بنات لم يرَين آباءهن إلا بعد سنوات من التحرر، وقد تغيّر كل شيء.
أدب السجون المغربي يفتقر إلى تمثيل كافٍ لهؤلاء النسوة. غابت أصواتهن عن الكتابات الرسمية، لكنهن حفرن ذاكرتهم في الملاحم اليومية للصبر.
👩👧👦 هل آن الأوان لأرشفة نسوية لذاكرة السجن؟
- لماذا لا نجد مذكرات نسوية كافية عن سنوات الاعتقال؟
- ما الذي يمنع الناجيات من الكتابة؟ الرقابة؟ الخوف؟ النسيان؟
- ما دور الجمعيات النسائية والحقوقية في توثيق هذا الجانب؟
إن الكتابة النسوية عن السجن لا تقل أهمية عن نظيرتها الذكورية، بل تكشف زاوية مظلمة لم تُنر بعد: زاوية الجسد المُهان، الأمومة المعلّقة، الأنثى في مواجهة دولة لا تعترف بضعفها ولا قوتها.
🔚 دعوة لإنصاف الذاكرة النسائية
من بين كل فصول أدب السجون المغربي، تظلّ النساء الحلقة الأضعف تمثيلًا. لا لغياب التجربة، بل لغياب الاهتمام بتوثيقها، ولصمت أُجبرن عليه طويلاً. آن الأوان لإعادة كتابة الذاكرة من منظور نسوي، يجعل من أصواتهن جزءاً لا يتجزأ من سردية سنوات الرصاص.
📌 إن كانت “الزنزانة رقم 10” قد حكت جحيم تازمامارت، فإننا لا نزال ننتظر من تكتب عن الزنزانة رقم 11… تلك التي كانت فيها امرأة.
🎭 من النص إلى المسرح والسينما
تحولت بعض الشهادات إلى أعمال مسرحية وسينمائية:
- مسرحية “زنزانة رقم…” مستوحاة من كتاب المرزوقي، وعُرضت بعد 2005.
- فيلم وثائقي “ذاكرة معتقلة” سلط الضوء على شهادات درب مولاي الشريف.
- “الناجون” (وثائقي فرنسي-مغربي) يروي حكايات تازمامارت.
- لكن السينما المغربية لم تجرؤ بعد على تحويل هذه النصوص إلى أفلام درامية كبرى، ربما بسبب حساسية الموضوع أو صعوبة الإنتاج.
🚫 الصراع مع الرقابة والنشر
واجه هذا الأدب عراقيل عديدة:
- رفض دور نشر مغربية نشر هذه الكتب خوفًا من السلطة.
- منع بعض الكتب داخل المغرب أو مصادرتها (كما حدث مع بعض طبعات كتب اللعبي).
- اعتماد الكتاب على النشر الخارجي (فرنسا، بلجيكا، كندا…).
- الرقابة الذاتية أحيانًا، خوفًا من ردود فعل المؤسسة أو المجتمع.
ورغم ذلك، نجحت هذه النصوص في الانتشار بين القراء، بل وأصبحت تُدرّس اليوم في جامعات أوروبية كوثائق ثقافية مقاومة.
📖 هل وصل أدب السجون إلى الأجيال الجديدة؟
رغم أهميته، لا تزال هذه الكتب غائبة عن المقررات المدرسية، وغير مدرّسة في الجامعات المغربية بشكل كافٍ. وهذا يطرح سؤالاً:
- كيف نحفظ الذاكرة إذا لم تُقرأ؟
- كيف نتعلّم من الخطأ إذا لم يُروَ؟
- هل نخشى من الحقيقة أم من مواجهة أنفسنا؟
ينبغي دمج هذا الأدب في مناهج التعليم، لأنه يُعلّم الكرامة، والحرية، والمواطنة، أكثر مما تفعل بعض المناهج الكلاسيكية.
✅ خاتمة: أدب السجون كأرشيف حيّ للكرامة
أدب السجون المغربي ليس فقط نوعًا أدبيًا. إنه أرشيف حيّ، ومنصة للمصالحة، ومرآة تعكس ما لا تريد الدولة تذكره. لقد أنقذ هذا الأدب التاريخ من المحو، وأعاد للضحايا أصواتهم.
إنه أدب الوجع، لكنه أيضًا أدب النجاة. أدب من لم يُمنح منبرًا، فصنعه بنفسه. قد لا تشفي الكلمات الجروح، لكنها تضمن ألا تتكرر. إنها ذاكرة تقاوم النسيان، وتُطالبنا، بصوت هادئ لكنه صارم: أن لا ننسى.
🔑 الكلمات المقترحة: أدب السجون المغربي، سنوات الرصاص، الزنزانة رقم 10، تازمامارت، درب مولاي الشريف، أحمد المرزوقي، عبد اللطيف اللعبي، عبد القادر الشاوي، الطاهر بن جلون، القمع السياسي، شهادات المعتقلين، العدالة الانتقالية، الأدب الحقوقي المغربي، الرقابة الثقافية، المسرح السياسي، السرد السجني